لم تكن الغارات الاسرائيلية على مرتفعات النبطية والقرى المجاورة مجرّد تنفيذ لسياسة “حرية الحركة” التي تمنحها تل أبيب لنفسها، بل بدت كترجمة نارية مباشرة لما يُعرف اليوم بـ”ورقة باراك”—الخطة الأميركية التي تُسوَّق في الكواليس كمدخل لتفكيك معادلة السلاح في لبنان، تحت عنوان “نزع فتيل” الصراع الايراني – الاسرائيلي من الساحة اللبنانية.
أكثر من عشرين غارة في ربع ساعة، بصواريخ ارتجاجية عنيفة، أرسلت رسالة مزدوجة: أولاً، أن إسرائيل ليست بصدد الانسحاب أو التهدئة على الرغم من الاتفاقات المعلنة؛ وثانياً، أنها تواكب المسار السياسي الأميركي بورقة ضغط ميدانية تحاول فرض الوقائع بالقوة قبل أي تفاهم ديبلوماسي.
الرسائل لم تكن موجّهة إلى “حزب الله فقط، بل أيضاً إلى الدولة اللبنانية التي وجدت نفسها أمام سباق مفتوح: صياغة رد رسمي على “ورقة الأفكار” التي حملها الموفد الأميركي توم باراك، والتي تتناول سحب السلاح، وترتيبات الحدود، والاصلاحات الاقتصادية، والعلاقة مع سوريا، وهي ورقة تقوم على معادلة صارمة: “نفّذ أولاً، تُكافأ لاحقاً”.
في هذه الأثناء، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تصريحاً لافتاً، أعلن فيه أن بلاده “ستحاول إعادة الأمور إلى نصابها في لبنان”، واصفاً البلد بأنه “جميل ويستحق الاستقرار”. الكلام التصالحي لم يخفِ جوهر التدخل الأميركي المتجدد في التفاصيل اللبنانية.
لكن بيروت الرسمية تظهر كطرف ضعيف في موازين الضغط. رئيس الجمهورية جوزاف عون يشترط ضمانات وانسحابات إسرائيلية قبل الدخول في أي مسار تفكيك للسلاح. رئيس الحكومة نواف سلام يذكّر المجتمع الدولي بأن الاستقرار لا يُبنى على الركام. ورئيس مجلس النواب نبيه بري يستعد للقاء مفصلي مع سلام، تمهيداً لصياغة رد حكومي مشترك قبل عودة الموفد الأميركي.
في الميدان: إسرائيل لا تزال تحتفظ بقوات في الجنوب على الرغم من انقضاء مهلة الانسحاب بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، وتُفخّخ المنازل في الخيام، وتُهدد “اليونيفيل” بتفجيرها، فيما تتعرض قرى الجنوب للقصف والحصار. وفي ظل هذا الواقع، يتمسّك لبنان ببقاء قوات الطوارئ الدولية ويطالب بتمديد تفويضها، كحدّ أدنى من الحماية في مشهد يفتقر الى أي توازن.
المشكلة الأكبر أن الداخل اللبناني منقسم حول المسألة المركزية: ماذا بعد؟ فالحوارات المتقطعة بين الرئاسة و”حزب الله” بشأن سلاح ما بعد الحرب، تصطدم بمعضلة عقيمة: السلاح فقد وظيفته الرادعة. في المقابل، منظرو السلاح يعتبرون أن الدولة ما زالت تفتقر الى الأدوات التي تسمح لها بحمل مسؤولية الأمن وحدها.
لبنان اليوم على عتبة خيارات كبرى: فإما أن يُفرض عليه نزع السلاح من الخارج على إيقاع غارات الطائرات، وإما أن ينجح في إنتاج معادلة لبنانية داخلية تسبق الانهيار الشامل. وبين هذا وذاك، الجنوب يحترق… و”الخط الأزرق” يتحول إلى خط نار متقلب بين السلم والحرب.