هل يمكن للفيلسوفَيْن النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (1889- 1951) والألماني كارل ماركس (1818- 1883) أن يتقاطعا؟ ما الذي يمكن أن يجمَع المتَّهم بإخراج الفلسفة من المنظور الشمولي إلى مخبر التحليل، بالمتّهم بـ”تصحيح” الفلسفة إثْرَ توجيه دفّتها من الهوس بالتعالي المثالي صوب الانتباه للإنتاج المادي؟ وإذا كان الجواب بـ “نعم”، فأين يحصل هذا اللقاء بالضبط، وماذا يمكن يعني؟
في الصفحات المبكّرة من “رأس المال” (1867) يستحضر ماركس روبنسون كروزو بطل رواية الكاتب الإنكليزي دانيال ديفو (1660- 1731)، وكروزو معزولٌ وحيد، هرب من عائلته، ووجد نفسه بعيدًا عن المجتمع في الجزيرة التي تحطَّمت سفينته على شواطئها. ولاستحضار كروزو دومًا وظيفةٌ فلسفيّة، وهي الإشارة إلى الذاتيّة الفرديّة المعزولة عن حالة المجتمع، أي الذات الخالِصة المكتفية بذاتها.
يأتي ماركس بكروزو متلبّسًا كممثّل عن خط إنتاج وحيدٍ. في فلسفة ماركس، توجد داخل الشيء نزعَتان: قيمة استعماليّة وقيمة تبادليّة. القيمة الاستعماليّة هي الشيء واقعًا في طور الاستهلاك والاستخدام، والقيمة التبادليّة هي الشيء واقعًا في علاقة المقايضة مع أشياءٍ أنتجها آخرون. خطّ إنتاجٍ واحدٍ معزول لا يُنْتِجُ سوى قيمًا استعماليّة، لأنّ البداهة تنصّ أنّ خطّ الإنتاج لا يبادل القيم الاستعماليّة التي يصدرها هو فقط مع نفسه. روبنسون كروزو بحاجة على الأقلّ إلى خط إنتاجٍ مُغايِر، كي تنشأ القيمة التبادليّة لمصنوعاته. ولأنّ القيمة لا تتمثّل سوى داخل المجتمع، وتتطلّب خط إنتاج واحدٍ إضافيّ على الأقل، فإنّ القيمة لا يمكن أن تكون إلا علاقة اجتماعيّة.
بين المقاطع 243- 261 في كتابه المدوّي “تحقيقات فلسفية” (1953)، يتخيّل فيتغنشتاين كروزو من خلال “فرضيّة اللغة الخاصّة”. الفرضيّة هي لعبة ذهنيّة تخيّليّة، تحسم بأنّ اللغة التي لا يفهمها سوى شخصٌ واحدٌ فقط، أو اللغة الفردية الخاصّة التي لا تكون مفهومةٌ للآخرين سوى لمخترعها، هي لغة غير ممكنة ولا يمكن أن توجد. يصل فيتغنشتاين إلى خلاصته حول استحالة اللغة الخاصّة من خلال تأمّلاته حول التسمية والمعنى. أنصار الفرضيّة، أي المؤمنون بإمكانية اللغة الفرديّة الخاصّة، يصرّون أن التسمية الفرديّة هي الفعل الجوهري في تأسيس المعنى من الصفر. بينكِ وبين نفسكِ تنظرين إلى شيء يبدو لونه أحمرًا، ثمّ تسمّينه بكلمة “أحمر”. وبهذه البساطة، عمليّة التسمية كافيةٌ لإنتاج المعنى.
ما يدحضه فيتغنشتاين هو استحالة الإنتاج الفردي المعزول اجتماعيًا للمعنى، مركّزًا هجومه على الدور المزعوم للتسمية في تأسيس المعنى. التسمية عمليّة شديدة التعقيد وتفترض إمكانات لغويّة معقّدة، إذْ حتّى تقوم بتسمية شيء بـ “أحمر”، يجب أن تكون قادرًا على فهم ماذا يعني أن تسمي شيئًا. ليس هذا فحسب، بل إنّ التسمية فعل شديد التطوُّر لغويًا، إذْ يتطلّب القدرة على تفريد خصيصة اللون داخل الشيء من الخصائص الأخرى التي يتمتع بها الشيء، كالطول والوزن والحجم، وهذا يفترض معرفة بالمسبقة بتصنيفاتٍ مثل الحجم والطول والوزن، إضافة إلى معرفة دقيقةٍ بالفروق بينها. التسمية لا تستطيع أن تخلق المعنى من الصفر، بل هي تفترضُ مسبقًا كفاءةً لغوية متطوُّرة. التسمية تفترضُ معرفة بالمعنى، ولا يمكن أن تكون مصدرًا بالمعنى.
“في تأملاته حول الألوان، ينكشُ فيتغشتاين الطابع الاجتماعي للمعنى بإجهازه على دور التسمية الخاصّة في تأسيس المعنى من الصفر”
في تأملاته حول الألوان، ينكشُ فيتغشتاين الطابع الاجتماعي للمعنى بإجهازه على دور التسمية الخاصّة في تأسيس المعنى من الصفر. كلمة “أحمر” يمكن أن ترمّز للخطر في الإرشادات الرسميّة، أو لعدم جواز المرور عند ظهورها على إشارة المرور، أو إلى الاقتراب من درجات الحرارة العليا، أو إلى دماء الشهداء في أعلام حركات التحرير، أو إلى الخطر الشيوعي في فترة الحرب الباردة، أو إلى الخجل والغضب عند “تلّون” الوجه بالأحمر… ولا يمكن أبدًا اختصار كلمة “أحمر” بدلالتها اللونيَّة، أي لا يمكن لكلمة “أحمر” أن تُسْجَن فقط في زنزانة قدرتها على الإشارة إلى اللون الأحمر، بل يمكن أن تشير إلى أشياء ومواضيع مختلفة لما تظهر الكلمة في “ألعاب لغوية” مختلفة، تخضعُ كلّ منها إلى ظروف اجتماعيّة معينة. التاريخ القاموسي للكلمة لا يقول شيئًا حول استخدامات محتملة في ألعابٍ لغوية مستقبلاً. التسمية هي مَلْمَحُ من ملامح الشيء، ويمكن للشيء أن يحظى بأكثر من تسميّة، وللتسمية أن تشير إلى أكثر من شيء. ومنه فإنّ المعنى لا يُنتَج بالتسمية الفرديّة المعزولة، وشرط تجلّي المعنى هو الانبثاق من “لعبة لغويّة” يتّفق عليها فردان اثنان على الأقل.
يتقاطعُ الفيلسوفان إذًا عند روبنسون كروزو. ماركس كاشفًا الطابع الاجتماعي للقيمة، وفيتغنشتاين موضّحًا الطابع الاجتماعي للمعنى. القيمة الاقتصاديّة هي لغة التواصل بين السلع، والمعنى اللغوي هو محتوى التواصل بين الأفراد. الرأسماليّة الاقتصاديّة تحتجزُ القيمة، والهيمنة السياسية تحجب المعنى. وإذا نقلنا العدالة الماركسيّة المرتكزة على التوزيع العادل للقيمة من خلال امتلاك أدوات الإنتاج، فإنّ عدالة المعنى، يمكن أن ترتكز على المشاركة العادلة والمتساوية في الألعاب اللغوية للاستحواذ على أدوات إنتاج المعنى.
لاعدالة المعنى، هي أشدّ ظلمٍ يلحق بالمغترب خارج لغته، العامل المُستغَّل في مصنع المعنى. كل مغتربٍ خارج لغته ليس إلا روبنسون كروزو، لأنّ شيء لا يضاهي اغتراب العامل من منتجه، مِثْلَ اغتراب المهاجر من لغته.
كاتب سوري يقيم في برلين. من أسرة تحرير “َضفة ثالثة”.
شارك هذا المقال