يرى الباحث والعالم السياسي الأميركي من أصل إيراني المتخصّص في دراسات الشرق الأوسط وتاريخ الإسلام وليّ رضا نصر، ومؤلّف العديد من الكتب عن إيران أشهرها “صحوة الشيعة”، يرى في مقال له في صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ المرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئي لن يتراجع في مواجهة أيّ تهديد خطر.
يقول نصر إنّه بعد الهجوم الأميركي على المواقع النووية الإيرانية أصبح مستقبل البرنامج النووي للبلاد ومصير وقف إطلاق النار الهشّ مع إسرائيل بين يدي خامنئي، الذي يستلهم من حرب إيران الطويلة والدامية مع العراق في ثمانينيّات القرن الماضي دروسها من أجل رؤية النظام العالميّة وسياسة الأمن القومي الخاصّة به.
وفقاً لنصر، يرى آية الله خامنئي إيرانَ منخرطة في صراع من أجل البقاء ضدّ الولايات المتّحدة وحلفائها، بما في ذلك إسرائيل. لذا كانت السياسات التي اتّبعها في العقود التي تلت تولّيه السلطة هي القمع الداخلي والتوسّع النوويّ ودعم الميليشيات بالوكالة بما في ذلك “حماس” و”الحزب”، وكلّها في خدمة الفوز في هذا الصراع. لكنّ طهران تدرك حدودها في هذا الصراع، فجيشها غير ذي كفاية على الإطلاق في مواجهة الأسلحة الأميركية الأكثر تقدّماً.
هذا واقتصادها مقيّد بشدّة بالعقوبات الدولية. وفي السنوات الأخيرة، ثار الإيرانيون على سياسة المقاومة الدائمة التي ينتهجها النظام تجاه الغرب وعلى سياساته القمعية الداخلية. وحافظت الولايات المتّحدة على وجود قويّ في المنطقة، حيث يتمركز عشرات الآلاف من جنودها في شبكة من القواعد.
يعتقد نصر أنّ آية الله خامنئي لن يتراجع، فضلاً عن الاستسلام. والتاريخ دليل على ذلك. لقد وافق على وقف إطلاق النار مع إسرائيل فقط لأنّه واثق من أنّ إيران صمدت في وجه الضربات الأميركية والإسرائيلية. في الماضي أيضاً، قدّم تنازلات عندما كان ذلك ضروريّاً.
يعتقد نصر أنّ حسابات إيران ستعتمد إلى حدّ كبير على تقويمها لمدى صمود برنامجها النووي في وجه القصف الأميركي
أميركا كالكلب!
خامنئي، في رأي نصر، غير مهتمّ بتقديم تنازلات قد تغيّر مسار إيران جذريّاً. بل يحذّر من الظهور بمظهر المنفتح على التنازل لأنّه يعتقد أنّ الولايات المتّحدة ستفسّر ذلك علامة ضعف. وقال لمستشاريه في اجتماع قبل أكثر من عقد: “أميركا كالكلب. إذا تراجعت، فستنقضّ عليك، وإذا انقضضت عليها، فسترتدّ وتتراجع”.
لذا سعى إلى توازن يمكن تلخيصه بـ”لا حرب ولا سلام”. فلا يريد المواجهة ولا التطبيع مع الولايات المتّحدة. ما يريده هو أن تتوقّف واشنطن عن احتواء إيران، وتحرير اقتصادها، والسماح لها بمكانة قوّة إقليمية عظمى.
خامنئي
يكتب في صحيفة “نيويورك تايمز”: يعتقد خامنئي أنّ إيران قادرة على تحقيق هذا الهدف في الوقت المناسب. ويعتقد أنّه إذا ثابرت طهران، فيمكنها النجاة من شهيّة واشنطن وإسرائيل للقتال. لعقود من الزمن، بنى نظامه استراتيجيته العسكرية على الصبر والتحمّل، وهو ما يعكس الدروس التي تعلّمها القادة الإيرانيون من الحرب الإيرانية العراقية. إذ تمكّنت إيران من التفوّق على الجيش العراقي الأفضل تسليحاً من خلال استخدام قوّات حرب العصابات وما يسمّى بهجمات “الموجات البشريّة”، فاستطاعت استعادة الكثير من الأراضي التي خسرتها.
وفقاً لنصر، كان الدرس لخامنئي ونظرائه هو أنّ إيران قادرة على استنفاد الأعداء الأفضل تجهيزاً، حتّى عندما تكون الاحتمالات ضدّها. وقد وجّه هذا الدرس ردّ إيران على الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. واقتناعاً منه بأنّ إيران هي التالية على قائمة واشنطن، كلّف خامنئي الجنرال قاسم سليماني، الذي قُتل في غارة أميركية بطائرة بدون طيّار في عام 2020، بالاستفادة من الفوضى والتمرّد العراقي الناشئ لدفع الولايات المتّحدة إلى مستنقع.
ونجحت هذه الاستراتيجية: ففي عام 2011، سحبت الولايات المتّحدة معظم قوّاتها بعد تمرّد طويل ومرهق.
خامنئي، في رأي نصر، غير مهتمّ بتقديم تنازلات قد تغيّر مسار إيران جذريّاً
يشير نصر إلى أنّه كان لإيران في السنوات الأخيرة المتّسع من الوقت للاستعداد لهجوم أميركي أو إسرائيلي. وقد يكون دفنها العميق لموقع تخصيب فوردو قد أنقذه من الدمار الكامل بالقنابل الأميركية الخارقة للتحصينات.
في رأيه أنّ الصراع الأكبر من شأنه أن يشكّل تهديداً أعظم، لا سيما في وقتٍ يعاني فيه الاقتصاد الإيراني من الضعف ويسود فيه الاضطراب بين السكّان. في الوقت الحالي، ربّما خلصت طهران إلى أنّها قادرة على الصمود في وجه الصعوبات الاقتصادية المرتبطة بالحرب، وأنّ السكّان سيحتشدون حول العلم ويوجّهون غضبهم ضدّ المعتدين الأجانب. ومع وضع هذه الحسابات في الاعتبار، شعر خامنئي أنّه مضطرّ إلى الردّ لإظهار أنّه لم يُهزم. ويسعى إلى إثبات أنّ واشنطن لا تستطيع تحقيق أهدافها بالقوّة، سواء كان الأمر يتعلّق بتغيير النظام أو تفكيك البرنامج النووي الإيراني.
الرّدع لا التّصعيد
يؤكّد نصر أنّ “إيران تسعى إلى الردع، لا إلى التصعيد. ويبدو أنّ نطاق وتوقيت إطلاق الصواريخ الذي استهدف قاعدة العديد الجوّية في قطر كانا مدروسين بعناية، حتى إنّ المسؤولين الإيرانيّين أعلنوا مسبقاً بقرب وقوع الضربة”.
لكنّه يحذر “من أنّه في حال انهار وقف إطلاق النار واستؤنفت الحرب، فقد تختار إيران مهاجمة السفن أو القواعد الأميركية في الخليج العربي أو إغلاق مضيق هرمز. وسواء فعلت ذلك أم لا، فإنّ المهمّ هو قدرتها على إبقاء العالم في حالة تأهّب، مستغلّةً حالة عدم اليقين لزعزعة أسعار الطاقة والتجارة العالمية”.
خامنئي
يرجّح في حال اختيارها الهجوم أن تهدف ضرباتها إلى إجبار إسرائيل والولايات المتّحدة على القبول بحرب استنزاف. إذ تعتقد إيران أنّ الحرب الطويلة ستحبط الخطط الأميركية والإسرائيلية لتحقيق نصر حاسم، وتُجبرهما على تقديم تنازلات في مواجهة التكاليف المتزايدة وردود الفعل الشعبية السلبية داخليّاً. لن ترى إيران في دعوة الرئيس ترامب إلى السلام مخرجاً دبلوماسيّاً مرحّباً به ولن تتمكّن من الاستعداد للتفاوض إلّا بعد استعادة بعض القدرة الرادعة، ربّما من خلال الحصول على السلاح النووي.
في رأي نصر أنّ خامنئي ربّما كان يعتمد على فكرة أنّ احتمال “اندلاع “حرب أبدية” أخرى في الشرق الأوسط مُرعبٌ بما يكفي لإبقاء الولايات المتّحدة بعيدة
يسأل نصر: هل يمتلك نظام آية الله خامنئي ما يلزم من القدرة العسكرية والقوّة الداخلية والصمود السياسي لخوض حرب استنزاف؟ في رأيه، يشكّل هذا الغموض جزءاً من خطّة المرشد الأعلى. وربّما الأهمّ ليس قدرة إيران على القتال إلى أجل غير مسمّى، بل قدرتها على ذلك لفترة أطول ممّا ترغب واشنطن أو إسرائيل في تحمّله، خاصّة إذا تمكّنت إيران من إعادة بناء بنيتها التحتيّة النووية في هذه الأثناء، بل حتّى بناء ترسانة نووية.
إغلاق البرنامج النّوويّ أمام التّفتيش
يعتقد نصر أنّ حسابات إيران ستعتمد إلى حدّ كبير على تقويمها لمدى صمود برنامجها النووي في وجه القصف الأميركي، وقدرتها على تحويل مخزونها الحالي من اليورانيوم العالي التخصيب إلى أسلحة نووية. وقد تُغلق برنامجها النووي أمام التفتيش الخارجي، وحتّى لو ظلّت طرفاً في معاهدة حظر الانتشار النووي، فستُبقي العالم في حيرة بشأن أهدافها. قد تحاول الولايات المتّحدة عرقلة تقدّم إيران، لكنّ ما لم ترسل قوّات برّيّة، فإنّ وسائل عملها قد تكون محدودة.
إقرأ أيضاً: خبراء إسرائيليون يشرحون: أين أصبح المشروع النووي الإيراني الآن؟
في رأي نصر أنّ خامنئي ربّما كان يعتمد على فكرة أنّ احتمال “اندلاع “حرب أبدية” أخرى في الشرق الأوسط مُرعبٌ بما يكفي لإبقاء الولايات المتّحدة بعيدة. فإيران كانت تأمل حتّى الآن أن تكون طموحاتها النووية كافيةً لإنهاء الاحتواء الأميركي والفوز بتخفيف العقوبات على طاولة المفاوضات. أمّا الآن فقد يستنتج خامنئي أنّ السبيل الوحيد لتحقيق أهدافه هو في عبور الخطّ الأحمر النووي مرّة واحدة وإلى الأبد”.
*ولي رضا نصر أستاذ كرسي ماجد خدوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز. شغل منصب العميد الثامن للكلية بين عامي 2012 و2019، وعمل مستشاراً أول للممثل الخاص للولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان، السفير ريتشارد هولبروك، بين عامي 2009 و2011. وهو عضو في المجلس الاستشاري الدولي لكلية بلافاتنيك للحكم بجامعة أكسفورد، والمجلس الاستشاري الدولي بالجامعة الأميركية في بيروت، والمجلس العالمي لأمناء جمعية آسيا، وعضو في المجلس الاستشاري لكلية راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة.