“…. كما نعلن أن المسيحيين السوريين هم جزء أصيل من هذا الشعب الذي اتصف عبر تاريخه الطويل بالنخوة والمروءة والاعتدال. لقد لعب المسيحيون السوريون عبر تاريخهم الطويل أدواراً وطنية بارزة في خدمة بلادهم وبناء حضارتها، وليس آخر هذه الأدوار المهمات المحورية التي قام بها كثير منهم في صفوف المعارضة والثورة والاعتدال”.
لماذا شعر الموقّعون السوريون على هذا البيان بضرورة “إعلان المسيحيين” على هذا النحو؟ “الإعلان” بدلاً من “التذكير” مثلاً، أو حتى الاستغناء عن هذه الفكرة برمتها كونها حقيقة واقعة، أو يُفترض أن تكون كذلك؟!
بيانٌ صِيغ بالنوايا الحسنة والتصالحية “لدرء بوادر الفتنة ورأب الصدع وتعزيز السلم الأهلي والوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد”. كُتب بمقاربة اليد الممدودة للدعم والمشورة، وأيضاً بمطالبة الدولة الجديدة بتكثيف وتسريع جهودها في مضمار “مكافحة الطائفية والتطرف وترسيخ قيم المواطنة والعدالة والمساواة”، مع المناشدة “لإطلاق مسار العدالة الانتقالية بلا تأخير”. وهذا كله جميل. لكن قراءةً تفكيكية للنص نفسه، تحيله نموذجاً ساطعاً لعقدة أقلويّة. ليس بالمعنى العدديّ الحرفي الذي لا يناقض بالضرورة كَون المسيحيين (أو الدروز أو الإسماعيليين أو الأكراد…) جزءاً من الشعب السوري. بل بقوالبه الفكرية، بالصورة عن الذات، وقد نتجرأ فنقول: بالمُركّب النفسي.
والعقدة الأقلّوية هنا ليست ملامة أو مذمّة أو انتقاصاً. ليس في ما يخص البيان والموقّعين عليه بالتأكيد، لكنها ربما صنيعة المُخاطَبين. الأهم أنها توصيف موضوعي، وربما أيضاً مظلومية. فهي نتاج عقود طويلة من التهميش، والاستئثار البعثي-الأسدي بالسلطة التي لم يُسمّح بتمثيل المكوّنات السورية فيها عن حق، ولا بأي شكل ديموقراطي اختياري وفعلي بالحد الأدنى، ولا أن تشارك في رسم ملامح أدائها، حكومةً بعد أخرى، ومجلسَ شعبٍ بعد آخر.
والمكوّنات في حالة سوريا هي الطوائف أولاً، والقوميات والعشائر ثانياً، شأنها شأن سائر دول المنطقة التي لمّا تُنجز بعد حَداثتها السياسية والاجتماعية والثقافية. وهذا ليس عيباً في ذاته، شرط ألا يتجاوز صفة السُلّمة الانتقالية بين تفويض “وليّ الأمر” وبين ثنائية دولة-مواطن. مع الإبقاء في الذهن أن فكرة “المكوّنات” وتمثيلها ما زالت تحمل وزناً سياسياً/مطلبياً حتى في أكثر المجتمعات تقدماً، بدءاً من الخلفيات العِرقية المتنوعة وليس انتهاء بالجندر، رغم استتباب الفرد، مفاهيمياً وقانونياً ودستورياً، إلى هذا الحد أو ذاك.
والحال، إن الموقّعين على البيان المذكور، وهُم يُعرذفون أنفسهم كـ”شخصيات مسيحية وطنية”، يبدون متأثرين بكل هذا الإرث من الإقصاء، بوعي أو من دونه. ولذلك ما زالوا يستشعرون الحاجة إلى التأكيد، بل إلى الإعلان، بأنهم يتحدثون عن جزء أصيل من الشعب السوري، وأنه صاحب دَور. وذلك رغم أن المسألة أبسط من ذلك بكثير: فإما أنك سوري، تحمل بطاقة الهوية السورية، وربما لك (أو ليس لك) في البلاد أقارب ومدافن وبيوتاً وذاكرة، وبالتالي لا داعي لإعلان ما هو بديهي ومحسوم. أو…لا. وطالما أن الأمر شابَه تعقيد، فلا بد من العودة إلى الكلمة المفتاح: السلطة، بما هي حق وواجب للتداول الحرّ، والتي حين تُحجب قسراً، تجعل أجزاء من الشعب السوري في حاجة إلى إعلان أصالتها، وتقليب صفحات التاريخ، بما في ذلك الماضي القريب، للتنويه بدورها.
فالعلويّون، رغم أنهم أقلية أيضاً، لا نسمعهم يعيدون تأكيد سوريّتهم. لقد كانوا طويلاً هم السلطة، من حيث المبدأ، بصرف النظر عن نوع السلطة هذه وشرّها واستبدادها، ومدى مشاركة الطائفة كلها فيها أو استفادتها كلها منها. لكنهم كانوا مُمثَّلين. وإن سقط آلاف المدنيين منهم، بين قتلى ومصابين ومخطوفين، في مجازر الساحل السوري، فهُم ضحايا عدالة انتقالية لم تستقِم، ومسارٍ ثأريٍّ وفوضى حُكم. لكن سوريّتهم لم تهتز، لا في نظرهم، ولا حتى في نظر قتَلَتهم.
أما بقية الطوائف، بأكثريتها السنّية وبقية أقلياتها، فإن كانت جزءاً من السلطة الأسدية البائدة، فقد كانت كذلك بموجب علاقات ولاء، أو كإكسسوارات شكلية، وتقاطع خدمات ومصالح اقتصادية وأمنية. بكلمات أخرى، بحُكم التبعية والزبائنية في أسوأ الأحوال، والتحالف في أحسنها.
غير أن السنّة الآن هم السلطة، وبقية المكوّنات هي غالباً الإكسسوارات والموالاة والتحالفات. وبالتالي لا نسمع مَن يعلن السنّة جزءاً أصيلاً من الشعب السوري، بل لطالما تصدّرت هتافاتِ الثورة عبارة: “اللي بيقتل شعبه خاين”. في حين أننا رأينا الدروز مثلاً، في تظاهراتهم ولافتاتهم، يذكّرون مرة بعد مرة بالثورة السورية الكبرى التي أطلقها سلطان باشا الأطرش من بين ظهرانيهم وصارت ثورة السوريين جميعاً. وكُثر من أبناء الطائفة الصغيرة يكررون مراراً بأن السويداء وجبل العرب جزء لا يتجزأ من سوريا، وهو الأمر المُسلّم به، لولا “الشُبهات الانفصالية” التي لا تني تلاحقهم… وربما غازلت صورٌ من صُور الإدارة/الحوكمة الذاتية مخيلة بعضهم بفعل فقدان الأمل في دولة تشملهم كمواطنين، لا كرعايا. مجدداً، مَظاهر عقدة أقلّوية نتيجة تهميش، وإقصاء تاريخي من التمثيل الحقيقي، ومستمر.
فلماذا إذاً لم نسمع من البطريرك يوحنا العاشر، في كلمته خلال جنازة شهداء كنيسة مار الياس-الدويلعة، مؤكِّداً المؤكّد بأن رعيّته جزء أصيل من الشعب السوري؟ الأرجح لأن البطريرك في موقع سلطة موازية، لا يملك النظام الجديد تقويضها. فهو رأس طائفته وزعيمها الروحي. قوته مُستمدة من تمثيل ناسه (من دون انتخاب بأثر من انتفاء الممثِّلين المُنتخَبين). ناسه الذين تجمعوا في كنيسة الصليب المقدس في دمشق، مُستمِعين، وأيضاً َمسموعين، عَبره وبصوته. وإلى حد كبير، ينسحب الأمر نفسه على شيخ عقل السوريين الدروز، حكمت الهجري. وذلك بصرف النظر عن تاريخ الرجُلَين وطبيعة علاقتهما بالنظام السابق…فأزمات الوجود المُهدد، وتصاغُر الأرواح، وحرية الكلمة والحركة وأسلوب الحياة، مقرونةً بالخوف والغضب والجوع، تجبّ ما قبلها في وجدان الجماعة.
هكذا، يتعيّن على النظام الجديد التخفّف من سُلطته المحضة، لرؤية ذلك، والاعتراف به، والعمل على تغييره بالوسائل الديموقراطية التي بُترَت من الدستور… وإلا فلا سوريا، ولا سوريين.