ليست أدوار الدول بحجم مساحاتها الجغرافية وقدراتها الاقتصادية وإمكاناتها العسكرية فحسب، وهذه كلّها عناصر أساسية لا شكّ فيها، لكن في تجارب التاريخ ثمّة دول امتلكت هذه العناصر وغيرها، وقادها متهوّرون، أو قصار نظر، أو متسرّعون انفعاليون، أو متطرّفون، أدّت قيادتهم إلى كوارث. هنا دور الأفراد مهمٌّ عندما يمتلكون الرأي، ويعرفون إمكاناتهم، ويصيبون في استثمارها بالطريقة الصحيحة، وفي الوقت وبالأسلوب المناسبَين، لمتابعة القضايا الكبرى. هم بذلك يحوّلون دولهم، الصغيرة جغرافياً في محيط دول أكبر منها بكثير، قوىً مؤثّرةً فاعلةً حاضرةً في الساحات الإقليمية والدولية، ولاعبةً أدوراً مهمة. … أقول ذلك اليوم، والنقاشات والقراءات والتحليلات لم تتوقّف بعد حول ما جرى من حرب القصف والدمار المتبادلَين بين إيران وإسرائيل، وبعد مناورة القصف الإيراني على قاعدة العديد الأميركية في قطر، وانتهاك السيادة القطرية. وكان موقف القيادة القطرية مميّزاً من كثير من مواقف القيادات الأخرى في المنطقة، في ما يخصّ الموقف من المشروع النووي الإيراني، وكيفية التعامل معه. وقد أقرّ بذلك الرئيس ترامب عندما قال في زيارته أخيراً قطر: “يجب أن تشكر إيران دائماً وجود أمير في قطر كان من أحرص الناس على مصالحها والدعوة إلى تفاهم معها”.
لعبت قطر أدواراً مهمة على مدى السنوات الماضية ثبّتت من خلالها موقعاً سياسياً متقدّماً محترفاً، وتحتاج دول كثيرة للاستفادة من خبراتها
قيل (وكُتب) كثير عن الرابحين والخاسرين في الحرب الماضية. قطر دولة رابحة، وهي ليست دولةً كبرى، لا تملك جيشاً كبيراً، ومحاطة بدول أكبر منها. لكنّها تملك إمكانات هائلة، وشبكة علاقاتها واسعة في كلّ الاتجاهات، ولعبت أدواراً مهمة على مدى السنوات الماضية ثبّتت من خلالها موقعاً سياسياً متقدّماً محترفاً، وتحتاج دول كثيرة للاستفادة من خبراتها ودورها، إضافة إلى إمكاناتها الاقتصادية المالية المهمّة. سرّ النجاح هنا الهدوء والصبر والحكمة والتبصّر والاستفادة من الإمكانات كلّها. المحافظة على كلّ العلاقات، والرؤية الواضحة في التعامل مع الآخر. هكذا رأينا دورها في الحرب على غزّة. إسرائيل تتهم قيادتها، تهاجمها، وتحرّض عليها. تتهمها باستخدام وسائل إعلامها، وخصوصاً قناة الجزيرة، لممارسة “التحريض عليها” في العالمين العربي والإسلامي، فتُغلق مكاتب المحطّة، وتقتل مراسلتها شيرين أبو عاقلة. وفي الوقت نفسه، لا غنى عن الدور القطري في التفاوض الذي تذهب إسرائيل إلى جولاته بمتابعة أميركية، فترسل موفديها، وتتوصل إلى اتفاقات لإطلاق سراح “رهائن” أو “مخطوفين” أو “أسرى”، من هنا وهناك، من دون أن يتوقّف الموقف القطري عن إدانة المشروع الإسرائيلي وعمليات الإبادة والقتل الجماعي للفلسطينيين، لا سيّما في آخر “إبداعات” اسرائيل اليوم في مصيدة الإعدام اليومي للمتهافتين على الحصول على لقمة عيش من المساعدات التي ترسل إلى غزّة، التي قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إنها “يجب ألا تتحوّل إلى حكم بالإعدام”.
لعبت قطر دوراً بين أفغانستان وأميركا، أثمر التوصّل إلى اتفاق لتأمين انسحاب آمن ومشرّف للقوات الأميركية من الأراضي الأفغانية، ثم تبادل أسرى بين حركة طالبان وأميركا، كما الإفراج عن أسرى جيبوتيين لدى إريتريا، وعن جنود لبنانيين مختطفين لدى جبهة النصرة (2015)، وراهبات محتجزات في شمالي سورية (2011)، واتفاق دارفور في السودان (2013)، واتفاق الدوحة المتعلّق بلبنان (2008)، والإفراج عن الممرّضات البلغاريات في ليبيا (2007)، وصفقة تبادل محتجزين بين أميركا وإيران (2023)، وتبادل سجناء بين أميركا وفنزويلا (2024)، ولمّ شمل أطفال أوكرانيين وروس مع عائلاتهم (2024 – 2025)، واتفاقات وقف إطلاق النار في غزّة، وتحرير رهائن وأسرى، ووساطة لوقف إطلاق نار في شرقي الكونغو الديمقراطية، قادها أمير قطر الشيخ تميم مع الرئيس الراوندي بول كاغالي ورئيس الكونغو فيليبس تشيسكيدي، الأمر الذي تطوّر إلى توقيع اتفاق بين الدولتَين الأفريقيَّتَين أخيراً، وقال عنه الرئيس الأميركي: “نحتفل بانتصار طال انتظاره بتوقيع اتفاق بين رواندا والكونغو الديمقراطية. قطر والاتحاد الأفريقي بذلا جهوداً كبيرة لتحقيق الاتفاق. قطر عملت بلا كلل للتوصل إلى اتفاق سلام بينهما. نتفاوض على صفقة معادن مع الكونغو وندرس صفقات مع رواندا”.
تبدو قطر تجربةً مهمّةً في فنّ إدارة الأزمات، ولعب دور الوساطة بهدوء، وأحياناً بعيداً من الأضواء
تبدو قطر تجربةً مهمّةً في فنّ إدارة الأزمات، ولعب دور الوساطة بهدوء، وأحياناً بعيداً من الأضواء، والوصول إلى نجاحات ومفاجآت واتفاقات. دور أكبر من الحجم الجغرافي، وامتداد واسع بدبلوماسية ناجحة. صبر وإرادة وإدارة، واستخدام جيّد للطاقات البشرية المتطوّرة، ومتابعة دقيقة. إعلام وسياسة، ونفط وغاز وتجارة، ورؤية. هكذا تطوّرت هذه الدولة الصغيرة الكبيرة بدورها اليوم.
كان بلدنا لبنان يتمتّع بدور استثنائي في المنطقة، أساء لبنانيون كثيرون إليه، لم يُقدّروا قيمة بلدهم الصغير بمساحته وموقعه ونعمه وتميّزه، وأساء آخرون التقدير والتدبير، غرقنا في حروب لم نخرج منها بعد، وما زلنا مختلفين على الهُويَّة والانتماء ومشروع بناء الدولة، وساحتنا مكشوفة لكلّ أنواع التدخّلات. تراجعنا كثيراً، رغم إيماني بأن ثمّة ميّزات لا يمكن أن يستنسخها أحد، أو يقلدها أو يصادرها أو يسقطها أحد. لكن، لسنا في لبنان الذي عرفناه ونطمح إليه. المعركة اليوم هي معركة وعي وذاكرة ومعرفة وثقافة وتكنولوجيا وأفكار وعلوم… ولبنان غنّي بذلك كلّه. نجح اللبناني على المستوى الفردي، وفشل اللبنانيون على مستوى الجماعة للأسف! كتبت كثيراً عن هذا الموضوع، وكان لي كتاب عنوانه يختصر كلّ التجارب: “لبنان… الثمن الكبير للدور الصغير”.
اليوم، ما تقوم به قطر يجعلني أقول: “قطر… البلد الصغير للدور الكبير”. تحية تقدير واحترام لمن قادها ويقودها إلى هذا الموقع، وإلى الشعب القطري الشقيق.