بعدما قامت الولايات المتحدة، مباشرة أو عبر إسرائيل، بضرب المنشآت النووية الإيرانية في عملية ناجحة وموجعة، وجد كثيرون أنفسهم أمام سؤال ملحّ: هل نحن أمام بداية الحرب، أم نهايتها؟
الواقع أن هذا النوع من الضربات لا يمثل تصعيدا كما يُظن، بل هو أقرب إلى خفض تصعيد استراتيجي، تماما كما كانت حادثة اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في مطلع عام 2020.
في كلتا الحالتين، نُفذت الضربات من موقع قوة، بقصد كسر التمدد الإيراني دون الدخول في حرب شاملة. وهي، وإن بدت استفزازا ظاهريا، فإنها تؤسس لمرحلة جديدة يكون فيها الردع محسوما لصالح واشنطن وحلفائها، وتُترك لطهران مساحة ضيقة للمناورة الشكلية.
ما جرى ليس مجرد عملية عسكرية، بل هو إعلان نهاية مشروع إيران الإقليمي كما عرفناه منذ 2011، المشروع الذي تأسس على ثلاث ركائز: النفوذ عبر الفواعل من غير الدول (الميليشيات)، وأنظمة حليفة تابعة (سوريا الأسد)، والبرنامج النووي كأداة ردع وهيمنة.
اليوم، تسقط هذه المرتكزات واحدة تلو الأخرى، لتبقى طهران في عزلة استراتيجية، وقد فَقَدت أدوات المبادرة، ولم يبقَ لها سوى الفصائل المسلحة في العراق كحبل نجاة أخير.
منذ اغتيال قاسم سليماني، تلقت إيران أولى الضربات الكبرى التي لم يكن الهدف منها التصعيد، بل قطع الرأس التنفيذي لمشروعها التوسعي. سليماني لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان معمار النفوذ الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن. اغتياله لم يفتح حربا، بل أُغلق بعده هامش المناورة أمام طهران، وانكمشت أدواتها بوضوح. الرد الإيراني كان رمزيا، واستُخدم داخليا لحفظ الهيبة دون مخاطرة.
واليوم، تكررت الفكرة نفسها مع ضرب المنشآت النووية: بدقة، في وضح النهار، وبلا حاجة إلى إعلان حرب. لا حاجة لاجتياح، ولا لإطالة أمد التفاوض. السلاح الردعي الأكبر لإيران تم تحييده أو تدميره. وما تبقى هو نظام يُقاتل ليحافظ على صورته لا على مواقعه.
الردع انكسر، ليس لأن إيران لم تخسر منشأة، بل لأنها فقدت آخر ما تبقى من عمودها الفقري الاستراتيجي. المشروع الذي انطلق قبل أكثر من عقد، ينهار تحت ضغط متزامن: سياسي، عسكري، اجتماعي، وإعلامي. فالنظام الذي كان يراهن على أدواته الخارجية، بات الآن محاصرا بعزلته.
ما يجري ليس إعلان حرب، بل إغلاق ملفاتها الكبرى واحدة تلو الأخرى. ليست معركة في طور التوسع، بل مشروع ينكمش ويتآكل ويُجرد من قوته بعمليات نوعية متقنة
لم تعد سوريا في قبضة إيران. بعد سقوط نظام الأسد، وصعود أحمد الشرع إلى السلطة بدعم تركي وعربي، باتت دمشق في موقع بعيد تماما عن محور طهران. الخط الذي كان يربط طهران ببيروت عبر بغداد ودمشق لم يعد قائما. ولم تعد طائرات “الحرس الثوري” تهبط بأريحية في مطار دمشق، ولا تمر قوافل الأسلحة إلى “حزب الله” كما كانت. الساحة السورية خرجت من تحت السيطرة الإيرانية تدريجيا، ثم كليا.
أما “حزب الله”، الركن الثاني في النفوذ الإيراني فإن اغتيال حسن نصرالله من قبل إسرائيل كان الضربة القاضية لواحد من أبرز أذرع إيران العقائدية والعسكرية. ومع غيابه، دخل “الحزب” مرحلة تفكك داخلي، وتراجع في شعبيته وفعاليته الإقليمية. لم يعد “الحزب” يشكل تهديدا حقيقيا لإسرائيل، ولا ورقة ضغط دبلوماسية أو سياسية. هو اليوم أقرب إلى ميليشيا محاصَرة في الداخل اللبناني، يلاحقها الغضب الشعبي والانهيار الاقتصادي، من كونه فاعلا إقليميا يُحسب له حساب.
وبين خسارة النظام السوري وتحييد “حزب الله”، بقيت الورقة النووية هي العنوان الوحيد الذي يمنح طهران ما تبقى من ثقل سياسي. كانت الورقة التي تُشهرها في كل مفاوضة، وتلوّح بها في كل أزمة. لكن ضرب المنشآت النووية الأخيرة أنهى هذه الورقة، أو على الأقل جرّدها من رمزيتها، بحيث لم تعد تصلح للابتزاز أو للردع.
هنا تماما تتضح مفارقة خندق خفض التصعيد: ما يجري ليس إعلان حرب، بل إغلاق ملفاتها الكبرى واحدة تلو الأخرى. ليست معركة في طور التوسع، بل مشروع ينكمش ويتآكل ويُجرد من قوته بعمليات نوعية متقنة، مثل نزع السلاح من دون دخول في مواجهة شاملة.
في هذا السياق، لا يبدو أن لإيران اليوم سوى مساحة محدودة للتحرك. العراق وحده هو المنفذ الباقي، عبر فصائل مسلحة تدين لها بالولاء، وتتمتع بغطاء رسمي أو شبه رسمي. لكن هذا الوضع ليس مستقرا. الشرعية العراقية الرسمية نفسها ستكون مهددة بالفقدان إن لم تُراجع موقعها ضمن فلك طهران، إذ بدأ المزاج العراقي الوطني، الشعبي والديني، ينظر بعين الحذر إلى أي تبعية عمياء لإيران، خصوصا مع استمرار التغلغل الأمني والسياسي الإيراني داخل مؤسسات الدولة.
انهار المشروع الإيراني لا بسبب المواجهة المباشرة، بل لأن خصومه فهموا كيف يُدار الصراع بهدوء وبضربات استراتيجية دقيقة
حتى الحوثي، الذي طالما كان الورقة الإيرانية المزعجة في خاصرة الخليج، فقد قدرته على التأثير الفعّال. فالضربات الجوية المركّزة التي نفذها التحالف، خصوصا في صعدة والحديدة وتعز، دمّرت قدرات الحوثيين الصاروخية، وأضعفت منظوماتهم القتالية. لم يعد الحوثي قوة مبادرة، بل قوة محاصَرة دفاعيا، تنتظر تسويات لا فرص توسع.
الصورة باتت واضحة: إيران اليوم بلا سوريا وبلا “حزب الله” وبلا مشروع نووي فعّال. وما تبقى لها مجرد نفوذ محدود في العراق، وفصائل تُصارع للبقاء. هي دولة تعيش على أمجاد مشروع مضى، وتحاول إعادة إنتاج أدوات أصبحت مكشوفة ومنهكة.
لقد انهار المشروع الإيراني لا بسبب المواجهة المباشرة، بل لأن خصومه فهموا كيف يُدار الصراع بهدوء وبضربات استراتيجية دقيقة. اغتيال سليماني لم يشعل حربا، بل أطفأ فوهة التوسع. وضرب المنشآت لم يفتح مواجهة، بل أنهى التهديد الاستراتيجي بصمت صاخب.
الذين يظنون أن الرد الإيراني قادم بشكل كاسح، يتجاهلون طبيعة الضربة نفسها: هي ليست ضربةً لبدء المعركة، بل ضربة لإنهاء ما تبقى من أدواتها.
+ / –
font change
حفظ
شارك