في خضم تسارع التطور التكنولوجي، بدت تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وفي مقدمتها تطبيق “شات جي بي تي”، أدواتٍ تكنولوجية متقدمة تعكس ملامح انخراط الذكاء الاصطناعي في مختلف شؤون الحياة والمعرفة.
في المقابل، برزت العديد من التحذيرات بشأن التوسع في استخدام هذه الأدوات دون انضباط أو تدقيق، خاصة على مستوى الملكية الفكرية ودقة المعلومات التي تقدمها، وهو ما يُظهر مدى أهمية التكنولوجيا الرقمية في حياة البشر.
غير أن ذلك لا يُقلل من ضرورة التنبيه إلى مخاطر التوسع في استخدام هذه التكنولوجيا دون ضوابط منهجية واضحة.
في هذا السياق، يشير محمد علي السويسي، الكاتب المتخصص في تكنولوجيا الاتصال، إلى أن العالم يشهد منذ سنوات قليلة جدلاً واسعاً وتطوراً تكنولوجياً كبيراً، يرتكز أساساً على جيل جديد من الذكاء الاصطناعي.
هذا الجيل، بحسب السويسي، “يبشّر برَجّة ثقافية وعلمية وتكنولوجية، تدفعنا اليوم نحو تحولات عميقة في مختلف القطاعات، من التعليم إلى الصحة، ومن الإعلام إلى الأمن السيبراني”.
ويلفت الباحث التونسي، في حديثه لـ”963+”، إلى أن من بين أبرز أدوات هذا التحول، برز نموذج “تشات جي بي تي”، المطوَّر من قبل شركة “أوبن إيه آي”، بقدرات لغوية فائقة تسمح له بإنتاج محتوى نصي متماسك يحاكي الكتابة البشرية. إلا أن السويسي حذّر من أن هذه القدرة، على أهميتها، “تنطوي على جملة من المخاطر التي لم تعد مجرد افتراضات نظرية، بل باتت واقعًا ملموسًا تؤكده الوقائع والتقارير الرسمية”.
ويوضح أن أحد أبرز هذه المخاطر يتمثل في قدرة النماذج التوليدية على إنتاج معلومات مضللة بمظهر موثوق، مشيرًا إلى أن وكالة “رويترز” كانت قد حذّرت في شهر أيار/مايو 2024 من استخدام محتمل لـ”تشات جي بي تي” في حملات دعائية مزيفة قبيل الانتخابات، الأمر الذي دفع الشركة المالكة إلى فرض قيود على ذكر الشخصيات العامة ضمن محادثات النموذج.
وينوّه إلى أنه في السياق ذاته، أعلنت الشركة في شهر شباط/فبراير من العام نفسه عن تعطيل خدمات مرتبطة بأطراف ثالثة، كانت قد استغلت واجهاتها لتوليد أصوات مقلدة لأشخاص حقيقيين بغرض النصب والاحتيال، في واحدة من أوضح حالات “التزييف العميق” التي استدعت تدخلاً عاجلاً.
ويضيف أن دائرة التهديدات لا تقتصر على المحتوى الإعلامي، بل تتسع لتشمل المجال السيبراني، حيث أقرّت “أوبن إيه آي” في شهر آذار/مارس 2024 برصد محاولات لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في صياغة رسائل تصيّد إلكتروني بالغة الإقناع، وهو ما يعزز فرص نجاح هجمات سيبرانية دقيقة وموجّهة.
كما يشير إلى بُعد آخر لا يقل أهمية، يتمثل في الأثر المهني والاجتماعي لتلك التقنيات، لافتًا إلى أن تقريرًا صادرًا عن “MIT Technology Review” في كانون الأول/ديسمبر 2023، أثار جدلًا واسعًا بعد رصده لتوجه بعض المؤسسات إلى تقليص عدد الموظفين عقب دمج أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي في أنظمتها التشغيلية، وهو ما يعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول مستقبل العمل ومعايير العدالة الرقمية.
ويختتم الكاتب التونسي محمد السويسي حديثه بالتأكيد على أن هذه التطورات المتسارعة تجعل الحاجة ملحّة لوضع أطر تنظيمية وتشريعية صارمة، تضمن أُطرًا أخلاقية لاستخدام هذه التكنولوجيا، وتكفل استخدامًا مسؤولاً لها، بما يحول دون انزلاقها نحو مسارات تهدد الأمن المعرفي والاجتماعي على حدّ سواء.
وأظهرت دراسة حديثة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) حول تأثير استخدام ChatGPT على أدمغة الطلاب، نتائج مثيرة للقلق.
وكشفت الدراسة، التي قسّمت 54 طالباً إلى ثلاث مجموعات لكتابة مقالات: مجموعة استخدمت ChatGPT، وأخرى استخدمت غوغل، ومجموعة ثالثة لم تستخدم أي أدوات مساعدة.
وقد أظهرت النتائج أن 83% من الطلاب الذين استخدموا ChatGPT لم يتمكنوا من الاستشهاد بمصادر مقالاتهم بعد دقائق قليلة من كتابتها.علاوة على ذلك، أظهرت المسوحات العصبية للطلاب انخفاضًا ملحوظًا في عدد الوصلات العصبية، من 79 إلى 42، مما يشير إلى تأثير سلبي محتمل على الذاكرة والقدرات المعرفية المرتبطة بالتعلّم والاستدعاء.
وتشير هذه النتائج إلى أن الاعتماد المفرط على أدوات الذكاء الاصطناعي قد يعيق القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات وفهمها بعمق، مما يثير تساؤلات حول الدور الذي ينبغي أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية.
من جانبه، يقول عبدالرحمن ربايعة، خبير تقني ومؤسس شركة “كرييتفولوجي”: “من خلال خبرتي في العمل وتدريبي للعديد من الشباب في مجال البرمجة، لاحظت أن الاعتماد الكامل على أدوات مثل ‘شات جي بي تي’ يضعف من تركيز المتدرب، ويجعل المعلومة تمر مرورًا سريعًا دون أن يتمكن من ترسيخها أو فهمها بعمق”.
ويشير الخبير الأردني، في حديثه لـ”963+”، إلى أن كثيراً من المتدربين “أصبحوا يفضلون الحصول على الحل الجاهز بدلًا من المحاولة والتعلم، مما يؤدي إلى تراجع في مهاراتهم على المدى الطويل”.
ويلفت ربايعة إلى ضرورة إدراك أن بعض المعلومات التي يقدمها “شات جي بي تي” قد تكون غير دقيقة، إذ إنه يعتمد على محتوى الإنترنت، “والإنترنت مليء بالمصادر الصحيحة والمغلوطة، وبعض المستخدمين يثقون بما يُقال لهم دون التحقق، وهذا يُعدّ مصدر خطر حقيقي”.
ويشدّد على أنه من الضروري استخدام “شات جي بي تي” بطريقة واعية، موضحًا: “ينبغي أن نعتبره أداة مساعدة، لا بديلاً عن التفكير أو البحث. علينا دائمًا أن نراجع ونتحقق، ونتعلم من خلال الجهد والممارسة، لا من خلال الاعتماد التام على الأداة”.
ويختتم حديثه بالقول: “باختصار، الذكاء الاصطناعي ليس هو المشكلة، بل تكمن المشكلة في طريقة استخدامنا له. فحين نحسن استخدامه بوعي ومسؤولية، يمكن أن يكون معيناً لا عبئاً”.