يبدو لبنان اليوم وكأنه على حافة مفترق تاريخي جديد، عنوانه العريض “ورقة باراك”، ومضمونه إعادة صياغة التوازنات اللبنانية بشروط خارجية صارمة، تتقدّمها ثلاثية نزع سلاح “حزب الله”، ترسيم الحدود مع سوريا، وفرض إصلاحات مالية واقتصادية تحت رقابة دولية. كل ذلك تحت شعار “الخطوة مقابل الخطوة”، في لحظة تتداخل فيها المعارك الدستورية مع الاشتباكات السياسية، ويُعاد فيها فتح ملفات حساسة كقانون الانتخاب وحقوق المغتربين، على إيقاع ضغوط إقليمية ودولية متصاعدة.
قبيل عودة الموفد الأميركي توم باراك إلى بيروت، تدخل البلاد في سباق محموم بين المهل الديبلوماسية والاستحقاقات الداخلية. اللجنة الثلاثية الممثلة للرؤساء الثلاثة تعقد اجتماعات مكثفة وسط تكتم مقصود، لصياغة رد لبناني رسمي على الورقة الأميركية. لكن خلف لغة التفاهم الظاهري، تكمن تباينات جوهرية يصعب إخفاؤها: فرئيس مجلس النواب نبيه بري يتولى قنوات التواصل مع “حزب الله”، فيما يعمل رئيس الحكومة نواف سلام على إدارة توازنات صعبة بين مطلب المجتمع الدولي بتنفيذ القرار 1701، وضغط داخلي متزايد نحو الحفاظ على “خصوصية المقاومة”.
المسودة اللبنانية الأولية تطرح مشروطية الرد على “ورقة باراك”، عبر ربط ملف السلاح بانسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة ووقف دائم لإطلاق النار. لكن الواضح أن “حزب الله” لن يرضخ لأي تسوية من دون رفع الحصار السياسي والاقتصادي، وتأمين مظلة عربية لا تُستخدم لاحقاً للانقلاب عليه، وهو ما يضع البلاد أمام معادلة بالغة التعقيد: سقف خارجي مرتفع لا يراعي هشاشة الداخل، وسقف داخلي لا يمتلك أدوات فرض شروطه.
وفي موازاة هذا الصراع السيادي، يشتعل في الداخل اشتباك من نوع آخر حول قانون الانتخاب، وتحديداً حق المغتربين في التصويت. وعلم “لبنان الكبير” أن اجتماعاً وزارياً موسّعاً يعقد اليوم لمواكبة هذه المسألة، التي تحوّلت إلى ساحة صراع مفتوحة بين القوى السياسية، سيضم وزراء الاعلام والخارجية والداخلية والعمل والعدل.
حزب “القوات اللبنانية” يدفع باتجاه توسيع اقتراع المغتربين على كامل مقاعد البرلمان، فيما يعتبره “الثنائي الشيعي” محاولة مكشوفة لقلب الموازين الانتخابية من الخارج، تحت عباءة “العدالة التمثيلية”.
هذا الاشتباك يُخفي خلفه معركة أعمق: محاولات جدّية لاختراق المقعد الشيعي المغترب في الانتخابات المقبلة، وربما لتهديد موقع بري في الرئاسة الثانية. رد “الثنائي” لم يتأخر: تلويح بمشروع “الدائرة الواحدة” على أساس النسبية، ما تعتبره القوى المسيحية تهديداً مباشراً لتركيبة النظام اللبناني.
وسط هذه التجاذبات، يظهر أن “ورقة باراك” لا تُقرأ فقط كمبادرة أميركية، بل كمشروع تسوية إقليمية كبرى، تتقاطع فيها مصالح واشنطن مع الرياض ودمشق، ويُطلب من بيروت أن تُغيّر جلدها السياسي.
إن ما يجري اليوم ليس نقاشاً تقنياً ولا مجرد “خريطة طريق” إنقاذية، بل هو اختبار لوجود لبنان كما نعرفه، وللمعادلة التي حكمته منذ العام 2006، إما يُعاد إنتاج النظام بمنطق التنازلات المتبادلة، أو يُفرض عليه توازن قوى جديد من خارج حدوده.