ملخص
هدنة ترمب المؤقتة في غزة لن تُغيّر واقعاً يقوده شعاران متضادان من “النهر إلى البحر”، بين إسرائيل التي توسّع سيطرتها، وحماس التي تعيد تسليح نفسها. غياب أي أفق سياسي للفلسطينيين، وتزايد الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل، يعمّقان الأزمة ويُضعفان فرص السلام، فيما تلوح في الأفق تحولات ديموغرافية خطيرة من خلال التهجير القسري.
يدعي الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه نجح في التوصل إلى “وقف لإطلاق النار” لمدة 60 يوماً في قطاع غزة، وإذا ما صمدت هذه الهدنة، فإن تعليق القصف وأعمال القتل في محيط مراكز توزيع المساعدات خلال هذه الفترة، سيكون موضع ترحيب. غير أن هذه الخطوة لن تغير شيئاً من جوهر الصراع، إذ لا تزال قيادات إسرائيل و”حماس” متمسكة بمواقف أيديولوجية تنطلق من الشعار ذاته: “من النهر إلى البحر”.
فبالنسبة إلى إسرائيل، يقصد بهذا الشعار “فرض سيادة كاملة” (على الأرض الممتدة من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط)، كما هو منصوص عليه في الوثائق التأسيسية لحزب “الليكود” بزعامة بنيامين نتنياهو. أما “حماس”، فترى فيه وعداً بأن “تكون فلسطين حرة”، وغالباً ما يفهم ذلك على أنه دعوة إلى إزالة إسرائيل وشعبها.
السبيل الوحيد لتجاوز هذا التناقض في الشعارات يكمن في ترسيخ قيم التسامح وإحياء الأمل، وهما أمران غائبان تماماً عن وقف إطلاق النار الذي أعلنه الرئيس الأميركي، فالعنف المستمر والإفلات من العقاب رسخا مشهداً مروعاً، ويبدو أن ترمب ليس هو الشخص القادر على رسم طريق الخروج منه.
أما “حماس” فهي حركة غارقة في الدماء وقاتلة، لم تتورع عن التضحية بعشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، ضمن حملتها الطويلة لتقويض أية فرصة قد يأمل الفلسطينيون من خلالها بإقامة دولتهم المستقلة والعيش بحرية، جنباً إلى جنب مع إسرائيل، بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
1.jpg
فلسطينيون ينقلون أكياساً وصناديق تحتوي على مواد غذائية ومساعدات إنسانية، أفرغت من قافلة تابعة لـ”برنامج الغذاء العالمي” التي كانت متوجهة إلى مدينة غزة في الـ16 من يونيو (حزيران) (أ ب)
ما زالت “حماس” تمسك بزمام السيطرة في قطاع غزة، وقد أساءت – وستستمر في إساءة – تفسير الاستياء العالمي الواسع من ما فعلته إسرائيل بالقطاع، معتبرة إياه تأييداً لأجندتها القائمة على مبدأ: إما نحن أو هم. وستتعامل الحركة مع هدنة 60 يوماً، كفرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصفوف ومعاودة التسلح.
بالنسبة إلى سكان غزة، يكمن التحدي الحقيقي في مقاومة إغراء الهجرة. فقد حولت إسرائيل عالمهم إلى أنقاض وغبار، فيما يبدو أنه تمهيد لتحقيق هدف واضح لحكومة نتنياهو، وهو إجبار نحو مليونين و200 ألف ناج من غزة، على النزوح قسراً نحو صحراء سيناء وغيرها من الأماكن.
وكان استطلاع للرأي أجري في شهر مايو (أيار) الماضي قد كشف عن أن 43 في المئة من سكان غزة باتوا مستعدين للهجرة – إلى أي مكان.
يفتقر الفلسطينيون لقيادة موحدة يمكن أن تمثل تطلعاتهم، فقبل سبعة أشهر أعرب 36 في المئة من الفلسطينيين عن دعمهم لـ”حماس”، بينما أيد 21 في المئة حركة “فتح”، التي تسيطر على الضفة الغربية. ومنذ ذلك الحين، تراجع الدعم لـ”حماس” بنحو أربع نقاط مئوية خلال الأشهر السبعة الأخيرة، وفقاً لبحث أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية”.
ولا يزال مروان البرغوثي الذي يعد الشخصية السياسية الفلسطينية الأكثر شعبية، ويحظى بنسبة تأييد تصل إلى 50 في المئة، قابعاً في سجن إسرائيلي حيث يمضي أحكاماً عدة بالسجن المؤبد.
منذ مقتل ما يقارب 1200 شخص واختطاف 240 من داخل إسرائيل، على يد متطرفين بقيادة “حماس”، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، تشن إسرائيل حرباً على قطاع غزة اتسمت بوحشية مروعة ضد السكان. ولم يكن إصدار المحكمة الجنائية الدولية لوائح اتهام في حق بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت، وإصدار مذكرات توقيف دولية في حقهما، إلا خطوة بالغة الجدية لا تقدم عليها المحكمة إلا في أقسى الحالات وأشدها خطورة.
اقرأ المزيد
ترمب يعلن موافقة إسرائيل على الشروط اللازمة لإبرام هدنة في غزة لمدة 60 يوما
غزة الآتية مع أو من دون “حماس”؟
معركة دونالد ترمب الجديدة… الفوز بجائزة نوبل للسلام
اتهامات لشركات سلاح بتأجيج حرب غزة وترمب سيعامل نتنياهو بـ”حزم”
إسرائيل تغيرت، إذ تشهد الدولة صراعاً داخلياً حاداً حول هويتها، في وقت يتمسك فيه نتنياهو بالسلطة بأية وسيلة، على رغم مواجهته تهماً بالفساد. وفيما علق موقتاً مخططاته الرامية إلى تقويض السلطة القضائية المستقلة، فإن من المرجح أن يعود لها. في غضون ذلك، يسجل المجتمع الإسرائيلي مؤشرات متزايدة على التطرف.
فاستناداً إلى استطلاع للرأي أجرته أخيراً “جامعة ولاية بنسلفانيا”، يؤيد 82 في المئة من اليهود الإسرائيليين ترحيلاً جماعياً للفلسطينيين من قطاع غزة، بينما أعرب 54 في المئة عن دعمهم الشديد لهذه الفكرة. وكشف البحث الذي شمل عينة من ألف مشارك يهودي إسرائيلي، أن 47 في المئة يؤيدون فكرة قتل جميع سكان المدن التي احتلتها إسرائيل – بطريقة مشابهة لما ورد في الرواية التوراتية عن تدمير مدينة أريحا.
صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية نشرت نتائج هذا الاستطلاع، وأوردت هذه الصحيفة اليسارية أيضاً مزاعم عن أن الجيش الإسرائيلي قتل عمداً منذ مايو (أيار) الماضي، أكثر من 400 شخص من سكان غزة، كانوا يسعون إلى الحصول على مساعدات غذائية.
يذكر أن ترمب يمتلك نفوذاً على إسرائيل، فقد خفض بصورة كبيرة المساعدات الخارجية المقدمة لمعظم دول العالم، مستثنياً فقط إسرائيل ومصر. وفي الوقت الذي حرمت فيه الدول الأكثر فقراً من هذا الدعم، كانت إسرائيل تحظى بما يصل إلى 20 في المئة من إجمالي المساعدات الخارجية الأميركية.
2.jpg
جنود إسرائيليون يتمركزون داخل “المستشفى الأوروبي” في خان يونس جنوب غزة، حيث يزعم الجيش الإسرائيلي أن مسلحين من “حماس” كانوا ينشطون في نفق يقع تحت المنشأة، في الثامن من يونيو (حزيران) 2025 (أ ب)
ووفقًا لـ”معهد واتسون للشؤون العامة” Watson Institute of Public Affairs، فقد زودت الولايات المتحدة إسرائيل بمساعدات عسكرية بقيمة 22.7 مليار دولار خلال العام الأول من حملتها العسكرية على قطاع غزة.
وأشار تقرير صادر عن “مجلس العلاقات الخارجية الأميركي” في نوفمبر (تشرين الثاني (الماضي، إلى أن “إسرائيل تعد أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأميركية على الإطلاق، إذ حصلت على نحو 310 مليارات دولار من الدعم الاقتصادي والعسكري (بعد احتساب معدلات التضخم)”.
يقول الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه يمارس ضغوطاً على بنيامين نتنياهو قبل زيارته المرتقبة للبيت الأبيض، إلا أنه سبق أن أيد، بصورة واضحة، مقترحات اعتبرت بمثابة تطهير عرقي في حق سكان غزة، من خلال تصور يقوم على ترحيلهم إلى دول الجوار وتحويل القطاع إلى منتجع سياحي ساحلي.
فيما تترافق دعوات ترمب إلى وقف إطلاق النار، مع تحذيرات من تدهور أوضاع المدنيين في غزة أكثر فأكثر، إلا أنها لا تقدم أي طرح بديل من شأنه أن يمنح الفلسطينيين أملاً، أو يضعف مكانة “حماس” في القطاع.
في المقابل، التزمت الولايات المتحدة الصمت، في الوقت الذي تتعرض فيه غزة لقصف مكثف، فيما يواصل المستوطنون الإسرائيليون ممارساتهم العدوانية في الضفة الغربية، حيث تسارعت وتيرة بناء المستوطنات غير الشرعية، مما قضى فعلياً على أية مساحة متاحة لقيام دولة فلسطينية مستقبلية.
إذا كان ترمب يريد حقاً نيل “جائزة نوبل للسلام” التي يعتقد أنه يستحقها بجدارة، فعليه أن يضع حداً لإفلات إسرائيل من العقاب، عبر وقف الدعم المالي الذي يمكنها من خوض الحروب.
أما “حماس” ومن يشاركها النهج الذي يقود المنطقة نحو الهلاك، فلا يمكن عزلهم وإنهاء دورهم، إلا إذا أتيح للفلسطينيين الذين باتوا يائسين من جميع قياداتهم، مسار حقيقي نحو مستقبل لا تحكمه أجيال جديدة من الاحتلال والفصل العنصري والمهانة.
يمكن لترمب أن يسهم فعلياً في إنهاء هذه المأساة القائمة على منطق إلغاء الآخر، عبر الضغط على إسرائيل للتراجع عن سياساتها التوسعية التي تتبنى شعار “من النهر إلى البحر”. في المقابل، يمكن تجاوز مطالب “حماس” بالسيادة الكاملة على الأرض ذاتها، إذا ما أتيح للفلسطينيين مسار حقيقي يعيد إحياء إيمانهم بالحرية.
قبل وقت ليس ببعيد، كان نحو ثلثي الفلسطينيين والإسرائيليين يؤمنون بإمكان قيام دولتين تتعايشان جنباً إلى جنب بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، ما يحتاج إليه الطرفان اليوم هو التحرر من منظومة الدعم التي تبقيهم أسرى البؤس والمعاناة هناك.
© The Independent