تتعامل الولايات المتّحدة مع لبنان وسوريا بصفتهما “ملفّاً” واحداً، أو هو على الأقلّ متكامل في مقاربة سياستها الخارجية، أو ما تريده للبلدين. تدرك تمايز الحالتين وتباين ظروف الأزمات وشكل الحكم في البلدين. لكنّها، في فهمها لـ “الهلال” الذي يتلاشى نفوذ إيران داخله، تقرأ الملفّين من كتاب واحد قد يفسّر ما يصدر من فتاوى عن تطبيع للبلدين مع إسرائيل.
صاحب تلك الفتاوى توم بارّاك. كُلّف الرجل، وهو سفير للولايات المتّحدة في تركيا، أن تمتدّ صلاحيّاته “السامية” لتطال الإشراف المباشر على سياسة واشنطن في سوريا ولبنان. والأمر ليس صدفة. بارّاك من أصول لبنانية، رجل أعمال كبير وصديق للرئيس الأميركي دونالد ترامب. يحظى بارّاك بعلاقة مع البيت الأبيض تشبه ما يحظى به ستيف ويتكوف الذي للصدفة أيضاً رجل أعمال كبير وصديق للرئيس ترامب.
يحمل ويتكوف ملفّات وازنة: حرب غزّة، حرب أوكرانيا والعلاقة مع روسيا. ثلاثيّة أخرى يحملها أيضاً بارّاك في ملفّات لافتة: تركيا، سوريا ولبنان. وفيما كان اللبنانيون يجهدون في عهد نظام سوريا السابق لمقاومة ذلك التماهي الأيديولوجيّ الذي أرادته دمشق حينذاك لحكم لبنان وسوريا، يحضّر بارّاك البلدين لـ “المصير الواحد” على نحوٍ ليس بعيداً عن حمولات أيديولوجيّة.
تحوّلات نهائيّة
بارّاك هو صاحب نظريّة انتهاء سلوكيّات “سايكس بيكو”، لا بل إنّه انتقد تدخّل الغرب في الشرق الأوسط وكاد يلعن تدخّل بلاده أيضاً. ولئن كان من الصعب استنتاج وعاء فلسفي واضح لسياسة ترامب العامّة في العالم، يمشي بارّاك على خطى صديقه في تبسيط ما هو مستحيل وجعله قابلاً للتحقّق. من كان يفكّر يوماً في اقتراب سوريا وإسرائيل إلى مساحة مشتركة قد تفضي إلى اتّفاق، وإن يبقى مستوى ذلك الاتّفاق العتيد مجهول المعالم والغايات.
ألقت الولايات المتّحدة بثقلها في سوريا أزالت العقوبات أعادت سوريا إلى النظام الماليّ واعدةً، وفق ما صدر عن وزير الخارجية ماركو روبيو
وزيرا “الإمبراطوريّات” السابقة، سايكس وبيكو، عملا على إدارة تركة الإمبراطوريّة العثمانية في بداية القرن الماضي وأنتجا النظام الإقليمي الذي يسود المنطقة حتّى الآن. قد يرى مراقبون في سعي بارّاك ورشة لإعادة رسم مشهد جانب من “هلال” إيران المندثر في المنطقة. ولئن سقط نظام بشّار الأسد إلى غير رجعة وسقطت معه “قلعة” إيران، وهي درّة تاج دولة الوليّ الفقية التي لم تعدّ تتمدّد، يعمل برّاك على إزالة الوهج الإيراني عن لبنان وشواطئ البحر المتوسّط.
في مداولات الأوساط الدبلوماسية الأوروبية ما يشي بنقاش بشأن المنطقة بعد إزالة سلاح “الحزب”. لا يجري النقاش في كيفيّة نزع هذا السلاح بل ما بعد هذا الأمر. تعتبر تلك الأوساط أنّ إزالة هذا السلاح قد تمّت عند إبرام وقف إطلاق النار في لبنان في تشرين الثاني 2024، وأنّ تنفيذ الأمر هو مسألة وقت وتفاصيل. وتدعو تلك الأوساط المراقبين إلى قراءة تلك المسلّمة لدى أوروبا من خلال ذلك الاندفاع اللافت الذي عبّر عنه الأوروبيون لدعم تحوّلات سوريا.
الولايات المتّحدة شريكة للسعودية في جعل التحوّلات السورية نهائيّة. والدولتان شريكتان في جعل ما يراه الأوروبيون منتهياً في لبنان أمراً ناجزاً. ليس صدفة أن يقصد بارّاك السعودية بعد مروره على بيروت قبل أسابيع ليلتقي مساعد وزير الخارجية السعودي الأمير يزيد بن فرحان. وليس صدفة أن يقصد الدبلوماسي السعودي الرفيع المستوى لبنان بشكل عاجل ومن دون أيّ تنسيق مسبق قبل أيّام من عودة صديق دونالد ترامب إلى بيروت.
تتعامل الولايات المتّحدة مع لبنان وسوريا بصفتهما “ملفّاً” واحداً، أو هو على الأقلّ متكامل في مقاربة سياستها الخارجية، أو ما تريده للبلدين
الرّياض سبّاقة
يتحضّر لبنان لعودة بارّاك. يُعدّ أوراقه مستشعراً أنّ هذا الرجل الدمث الذي تسري في عروقه دماء لبنانية وترتسم في محيّاه علامات لطف وتتسرّب من مواقفه أعراض “تفهُّم”، مكلّف من صديقه في البيت الأبيض بالتعاطي مع الملفّ بحزم، ومتسلّح بأدوات لم يعرفها المبعوثان الأميركيّان المتتاليان آموس هوكستين ومورغان أورتاغوس. تتجمّع العواصم المعنيّة فوق خارطة ما يُرسم، بما فيها تلك التي التأم ممثّلوها في “اللجنة الخماسية” بضيافة السفيرة ليزا جونسون سفيرة واشنطن في لبنان.
قد يجوز تأمّل الارتباك في مواجهة إيران بعد حرب الـ 12 يوماً وتأمّل الارتباك عينه في مقاربة “الحزب” لاستحقاق تسليم السلاح في ورقة بارّاك المتداولة. في نقاط تلك الورقة خمس نقاط أساسية قبل التطرّق إلى إعادة الإعمار وترسيم الحدود جنوباً وشرقاً. تتحدّث هذه النقاط الخمس عن تسليم السلاح الذي تكرّر خمس مرّات. بدا أنّ الدبلوماسية تتجاوز أبجديّاتها المواربة وتتناول المعضلة “من الآخر”.
ألقت الولايات المتّحدة بثقلها في سوريا. أزالت العقوبات. أعادت سوريا إلى النظام الماليّ واعدةً، وفق ما صدر عن وزير الخارجية ماركو روبيو. اتّخذت واشنطن قرار التطبيع الكامل مع النظام الجديد في دمشق منذ عهد جو بايدن، فيما بدا أنّ الرياض كانت سبّاقة بهذا الاتّجاه من صدور بيان وزارة الخارجية السعودية فجر سقوط النظام السابق في دمشق.
إقرأ أيضاً: التّطبيع بين إسرائيل وسوريا: سقف الرّياض
يأخذ “خطاب القسم” و”البيان الوزاري” هذه الحقائق بعين الاعتبار. تغيّرت المنطقة، وتغيّرت أكثر بعدما صبّت قاذفات الـ B2 الأميركية حممها فوق منشآت فوردو ونطنز وأصفهان النووية في إيران في سابقة لم تعرفها طهران. في أوروبا التي تخشّن موقفها من طهران يعتبرون أنّ العالم بات في عصر ما بعد الاتّفاق مع إيران، ذلك أنّ طاولة المفاوضات العتيدة هي مسألة وقت وتفاصيل، تماماً كما سلاح “الحزب” في لبنان.