ثمّة تأكيد متزايد، على المستوى الدولي العام، وعلى مستوى كلّ مجتمع على حدة، على دور المنظمّات غير الحكومية في تحقيق التنمية المستدامة، المتوازية والسويّة، وتعزيز الشفافية السياسية والإعلامية واحترام حقوق الإنسان.
ليست بلدان الخليج خارج استحقاقات هذا العصر، فهي في قلب التدويل الاقتصادي الذي جعل العالم كلّه معنيّاً بأمرها بحكم الأهمية الاستراتيجية لسلعة النفط التي تنتجها، بل إنّ منطقة الخليج وجوارها كانت مسرحاً لحروب بأبعاد دوليّة، كما أنّها محاطة بتحديات إقليمية كبرى، يمكن أن تُشكّل خطراً على أمنها واستقرارها، وإزاء هذا كله تظهر هشاشة مؤسّسات المجتمع المدني، وضعف دورها وقلّة تأثيرها في مجريات الأحداث في بلداننا، كإحدى القضايا التي يتعيّن الوقوف عندها والعمل على التغلب عليها لتقوية الجبهات الداخلية إزاء المخاطر المختلفة.
ما شهدته بلدان المنطقة من تحوّلاتٍ مهمّةٍ في العقود الماضية تحت تأثير التحولات الاقتصادية وتوسع نطاق الخدمات التعليمية والاجتماعية، والانفتاح الثقافي على العالم الخارجي، وتفاعل المجتمعات المحليّة مع تيارات العصر وثقافاته، أدّى إلى تشكّل نواة مجتمع مدني أخذت في النمو والتأثير، في صورة تياراتٍ وتنظيماتٍ سياسيةٍ عملت، في الغالب الأعمّ، بصورة سرّية، بسبب غياب التشريعات المنظمّة للعمل الحزبي في غالبية بلدان المنطقة، الضامنة شرعيّته وعلنيته، وكذلك في صورة هيئات مهنيّة وجمعيات نفع عام واتحادات معنيّة بشؤون الثقافة وحماية البيئة وحقوق المرأة… إلخ.
وبحكم ملابسات التطور الخاصة ببلدان المنطقة، أو بعضها على الأقل، ظلّ بعض هذه الهيئات متكئاً على دعم الدولة، ورغم أنّ مثل هذا الدعم قد يبدو ضروريّاً، فإن فكرة المجتمع المدني تتطلّب، في الأصل، استقلالاً في النشاط عن الحكومات؛ لأنّها تغطّي فضاء آخر مختلفاً، يجب ألّا تتدخل الدولة فيه، ويبدو ذلك ضروريّاً للدفع بالمجتمعات نحو النضج السياسي واستكمال بناء مؤسسات الدولة الحديثة.
وإذا كان مبرّراً أنّ الدولة في البداية مطالبة برعاية بعض المؤسّسات، وخصوصاً ذات الطابع الاجتماعي والخيري، فإنّ ما نحن بصدده من تحوّلات يجب أن يدفع مؤسّسات المجتمع المدني إلى أن تشبّ عن الطوق وتمتلك آلية مستقلة لنشاطها، وتلك هي المهمة المعقودة على رجال الفكر وقادة الرأي العام في الحقول المختلفة.
من الشائع أنّ مفهوم المجتمع المدني أصبح يطلق، للأسف، على كل ما هو غير حكومي، بصرف النظر عن طبيعة الدور الذي تؤدّيه المجموعات التي يُطلق عليها، مهما كانت درجة محافظتها، ومعارضتها أوجه من التحديث أدخلتها الدولة، على الأقل في بعض القضايا ذات الطابع الاجتماعي والثقافي، والمتصلة بأمور جوهرية مثل حقوق المرأة وتشجيع الفنون وعصرنة المجتمع، ذلك أنّ أي دولة، بوصفها تنظيماً عصرياً بالمقارنة بالأشكال التقليدية السابقة لنشوئها، تعدّ خطوة نوعية للأمام، من وجهة النظر التاريخية. ولذا لا يمكن أن نعدّ كل من يعارض الدولة، بصفتها هذه، ممثلاً للمجتمع المدني، من دون التمعّن في طبيعة البرامج والأهداف والشعارات التي يطالب بها أو يدعو إليها.
وهذا ما يمكن ملاحظته عند رصد مظاهر الحراك السياسي الاجتماعي في البلدان العربية، حيث لم تعد الأحزاب والتيارات التي بشّرت بفكرة الحداثة أو رفعت رايتها صاحبة الدور الحاسم فيه، وأنّ دورها قد تراجع لمصلحة قوى أخرى لا يمكن أن نصفها بالجديدة، رغم حداثة انخراطها في مثل هذا النوع من النشاط السياسي، فهي، على الأرجح، نوع من التقليدية الجديدة، أو التقليدية، منبعثةٌ في ظروف اليوم، حاملة معها خصائص هذه الظروف.
يتعيّن على المجتمع المدني، كمقابلٍ للدولة، أن يكون أكثر جذرية منها في انحيازه لقيم الحداثة والتقدّم والحقوق الديمقراطية، حازماً في نضاله من أجل أن تكون حديثة وعصرية، ومتحررة من ثقل الولاءات والتعاضديات التقليدية السابقة لها، عبر تكريس مفهوم المواطنة المتساوية للناس جميعاً، وإخضاعهم، على قدم المساواة، للقانون بما ينصّ عليه من حقوق ومن واجبات، ونبذ كل أشكال التمييز والمحاباة على أيٍّ من تلك الولاءات أو الانتماءات، فالمجتمع المدني هو في المقام الأول مؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات مستقلة لا عن الدولة وحدها، وإنما أيضاً عن الأطر التقليدية القائمة في المجتمع، أو هكذا يجب أن تكون.
ولأنّها كذلك، أو يجب أن تكون كذلك، يشترط في مؤسسات المجتمع المدني أن تكون حرّة من الكوابح التي تعيق فكرة الحداثة أو حتى ترفضها كليّاً.