الانخراط لا يعني الانحياز
بعد أكثر من عقد من القطيعة، جاءت زيارة وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي إلى دمشق كحدث مفصلي في مسار العلاقات الدولية مع سوريا لا يمكن تجاوزه دون التوقف عنده طويلا، فهي لم تكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل إعلانا صريحا عن تحول في الرؤية الغربية تجاه بلد أنهكته حرب دامت 14 عاما، وأرهقته العزلة، وآن له أن يجد طريقا نحو التعافي.
إعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة المتحدة وسوريا ليست مجرد خطوة رمزية، بل هي اعتراف سياسي بأن صفحة جديدة قد فُتحت، وأن النظام الجديد في دمشق، بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، يستحق فرصة لإثبات التزامه ببناء دولة مستقرة وآمنة لجميع السوريين. هذا التحول لا يعكس فقط تغيرا في الموقف البريطاني، بل ينسجم مع موجة دبلوماسية أوسع تشهدها سوريا منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر الماضي.
القرار البريطاني بإعادة فتح السفارة السورية في لندن، وتشكيل مجلس اقتصادي سوري – بريطاني، وتقديم دعم مباشر لقطاعي الزراعة والتعليم، يمثل تحولا نوعيا في مقاربة الغرب للأزمة السورية. فبدلا من الاكتفاء بسياسات العقوبات والعزل، هناك اليوم توجه نحو الانخراط الإيجابي، وهو ما قد يُحدث فرقا حقيقيا في مسار إعادة الإعمار.
◄ سوريا لا تحتاج إلى وصاية، بل إلى شراكة. وهو ما حرصت المملكة المتحدة على تأكيده عمليا بإعلانها عن تقديم مساعدات إنسانية وتنموية
سوريا اليوم لا تحتاج فقط إلى مساعدات إنسانية، بل إلى شراكات تنموية، واستثمارات طويلة الأمد، وإعادة دمج في الاقتصاد العالمي. والمملكة المتحدة، بثقلها السياسي والاقتصادي، قادرة على لعب دور محوري في هذا المسار، سواء عبر دعم المؤسسات السورية الجديدة، أو عبر تحفيز دول أخرى على اتخاذ خطوات مماثلة.
من المؤكد أن هذا الانفتاح لا يعني طي صفحة الانتهاكات التي ارتُكبت خلال سنوات الحرب. لكن الواقعية السياسية تقتضي التمييز بين المحاسبة والجمود. فالإصرار على إبقاء سوريا في عزلة دائمة لم يُسهم في تحسين أوضاع السوريين، بل زاد من معاناتهم، وفتح المجال أمام قوى إقليمية ودولية لملء الفراغ.
الرهان اليوم هو على حكومة انتقالية جديدة، تعِد بإصلاحات سياسية ومؤسساتية، وتحتاج إلى دعم دولي لترجمة هذه الوعود إلى واقع. وهنا، يأتي القرار البريطاني كخطوة جريئة، تُعيد الاعتبار للدبلوماسية كأداة لحل النزاعات، لا فقط كوسيلة للضغط.
من أبرز ما حملته الزيارة هو الإعلان عن دعم مباشر لقطاعي الزراعة والتعليم، وهما قطاعان حيويان في أي خطة لإعادة بناء سوريا. كما أن تشكيل مجلس اقتصادي مشترك يُعد خطوة عملية نحو جذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل، وتحريك عجلة الاقتصاد الوطني.
ولا يمكن إغفال أهمية رفع العقوبات البريطانية عن وزارات ومؤسسات سورية كانت مشمولة بالعقوبات في عهد الأسد، بما في ذلك قطاعات الطاقة والخدمات المالية. هذه الخطوة تفتح الباب أمام تدفق الموارد والتكنولوجيا، وتُعيد الثقة إلى بيئة الأعمال في سوريا.
من منظور بريطاني، فإن استقرار سوريا لا يخدم فقط مصالح السوريين، بل يصب أيضا في أمن أوروبا والشرق الأوسط. فكلما اقتربت سوريا من التعافي، تراجعت مخاطر الهجرة غير النظامية، وتقلصت فرص عودة الجماعات المتطرفة، وتوفرت بيئة أكثر استقرارا للتعاون الإقليمي.
وقد عبّر الوزير لامي عن هذا التوجه بوضوح، حين قال إن دعم الحكومة السورية الجديدة يصب في مصلحة المملكة المتحدة، ويُسهم في تنفيذ خطة الحكومة البريطانية لأجل التغيير، سواء في ما يتعلق بالأمن، أو بالهجرة، أو بمكافحة الإرهاب.
◄ القرار البريطاني بإعادة فتح السفارة السورية في لندن، وتشكيل مجلس اقتصادي سوري – بريطاني، وتقديم دعم مباشر لقطاعي الزراعة والتعليم، يمثل تحولا نوعيا في مقاربة الغرب للأزمة السورية
الرسالة الأهم في هذا التحول البريطاني هي أن الانخراط لا يعني الانحياز. بريطانيا لم تُعلن دعما غير مشروط لأي طرف، بل أكدت على ضرورة الانتقال السياسي الشامل، وعلى دعمها لجهود العدالة والمصالحة. وهذا التوازن هو ما يجعل قرارها أكثر مصداقية، وأكثر قابلية للتكرار من قبل دول أخرى.
القرار البريطاني بإعادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع سوريا هو أكثر من مجرد حدث سياسي؛ إنه نافذة أمل في جدار الأزمة. وإذا ما تم البناء عليه بذكاء، فقد يكون بداية لمسار جديد، تُستبدل فيه لغة العقوبات بلغة التعاون، ويُستبدل فيه الجمود بالعمل، واليأس بالفرص.
سوريا لا تحتاج إلى وصاية، بل إلى شراكة. وهو ما حرصت المملكة المتحدة على تأكيده عمليا بإعلانها عن تقديم مساعدات إنسانية وتنموية لدعم سبل العيش والتعليم والبلدان التي تستضيف اللاجئين السوريين.
لامي الذي التقى أيضا بفرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) وفرق العمل التي تقودها النساء بدعم من برامج المساعدات البريطانية، أشار إلى أولويات مثل مكافحة الإرهاب، والحد من الهجرة غير الشرعية، وتفكيك بقايا برنامج الأسلحة الكيماوية التي تعود إلى فترة حكم بشار الأسد الذي أطيح به في ديسمبر – كانون الأول الماضي.
وكانت بريطانيا قد علقت علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا في منتصف 2012 بعد تصاعد الاحتجاجات المناهضة للحكومة والاضطرابات المدنية.
بخطوتها هذه، اختارت المملكة المتحدة أن تكون شريكا في التعافي. فهل تحذو دول أخرى حذوها؟ وهل تلتقط دمشق هذه الفرصة؟