في المراحل التي تلي النزاعات المسلّحة، تُطرح الهُويَّة الوطنية بوصفها مسألةً تركيبيةً تتجاوز الخطاب السياسي والمؤسّسي، وتمسّ البنية العميقة للمعنى في المجتمع. الرموز العامّة، مثل الأعلام والشعارات والأسماء، تُفهم بوصفها أجهزةً لإنتاج الدلالة، تنظّم من خلالها السلطة رؤيتها للعالم وتحدّد ما يُعتبر جزءاً من الذات الوطنية وما يُستبعد منها. هذه الرموز لا تنشأ من فراغ، بل تستند إلى تصوّرات مسبقة حول الانتماء، والهُويَّة، والتمثيل.
اعتماد “العقاب الذهبي” شعاراً لسورية، بعد سنوات من الثورة والحرب والانقسام، يأتي في سياق إعادة تشكيل صورة الدولة ضمن المجال الرمزي. يشير التصميم إلى القوة والانفتاح والوحدة، ويعكس استمراراً في اعتماد بنية عمودية ضمن منطق مركزي لإنتاج الرموز. الرمزية المتبنّاة لا تصدُر من تفاوض اجتماعي، إنما من احتكار رسمي للمعنى. عبر هذا التصميم، تُعيد السلطة تموضعها جهةَ إشرافٍ تُحدِّد شروط الانتماء وفق تصوّر مغلق. من الناحية الجمالية، يرتكز الشعار على عناصر مرتبطة بالهيمنة والثبات، في السياقات البصرية التي تلي النزاع، تشير هذه العناصر إلى مركزية القوة أكثر من انفتاحها على التعدّد. لا تظهر في التصميم أيّ إشارات إلى المرجعيات الثقافية المحلّية، كما لا توجد عناصر تنقل تعقيد البنية الاجتماعية السورية. التكوين البصري يتّجه نحو الوحدة من الأعلى، من دون استخدام أدوات تشير إلى التفاعل أو التشابك الرمزي بين مكوّنات المجتمع.
في المقابل، تقدّم تجربة جنوب أفريقيا مساراً مغايراً من حيث المنهج. هناك، خضع إنتاج الرمز الوطني لسيرورة تفاوض اجتماعي شملت أطرافاً تمثّل طيفاً واسعاً من المكوّنات الثقافية والعرقية. حمل التصميم النهائي عناصر متعدّدة تعكس تعقيد الواقع، من دون اختزال أو تبسيط. ألوان العلم وزواياه المتعدّدة تشكّل بنيةً تركيبيةً تستند إلى الاعتراف المتبادل، وتتيح إمكانية تكوّن هُويَّة مركّبة. هذه المقاربة أنتجت رمزاً قابلاً للتأويل المشترك، وقادراً على احتواء الاختلاف.
في الحالة السورية، لم يُطرَح شعار “العقاب الذهبي” من خلال عملية تشاركية. لم تُفتح مسارات للفنّانين المستقلّين، ولم يُدعَ المجتمع المدني إلى المساهمة، ولم يُطرح الرمز للنقاش العام. هذا الأسلوب في الإنتاج يعكس تصوّراً للرمز أداةً للضبط الرمزي، بدل أن يكون وسيطاً مفتوحاً للتعبير الجماعي. الهُويَّة هنا تُقدَّم من موقع أحادي يُعلِن معناها، بدل أن تتشكّل بتفاعل الفاعلين داخل الحقل الاجتماعي.
يشعر سوريون كثيرون بالارتياح تجاه خطوات تُبعد المشهد الرمزي من ماضي النظام السابق، حتى إن اقتصر التغيير على الشكل البصري. هذا الارتياح مرتبط بتاريخ طويل من احتكار الرموز الرسمية للمعنى، وتغييب التعدّد الرمزي داخل الفضاء العام. مع ذلك، لا تكفي الرغبة في القطيعة مع الماضي لتبرير استمرار النموذج الإقصائي نفسه. القيادة التي خاضت التحرير تمتلك شرعيةً سياسيةً، لكنّها لا تمثّل بالضرورة كامل الطيف الاجتماعي الذي شارك في التضحيات. الفئات التي بقيت خارج أجهزة التعبير تحتاج إلى مساحة للمشاركة في إعادة تعريف المشروع الوطني. استقرار الدولة يتطلّب إعادة بناء الفضاء الرمزي، إلى جانب إصلاح البنية المادّية. الرموز لا تؤدّي وظيفةً شكليةً أو تمثيلية فقط، بل تساهم في إعادة تشكيل الإدراك الجماعي وتحديد حدود الانتماء. إنتاج هذه الرموز من دون تفاوض يضعف وظيفتها الاندماجية، ويجعلها أقرب إلى إعلان رسمي يصدر من السلطة من دون رابطٍ حيٍّ بالمجتمع. إعادة النظر في رموز الدولة تتطلّب التفكير في آليات الإنتاج نفسها. التصميم ينبغي ألّا يُختزل في مسألة تقنية، بل يُنظر إليه فعلاً تأسيسياً يُعيد توزيع المعنى بين الفاعلين. لا تكتسب الرموز قيمتها من جودة تنفيذها البصري فقط، بل من قدرتها على التعبير عن خريطة تمثيل جديدة، تُقرّ بتعدّد المرجعيات، وتفتح المجال لتفاوض دائم حول الهُويَّة. عملية إنتاج الرمز الوطني ينبغي أن تنبثق من واقع الصراع والتعدّد، وأن تعمل لتحويلهما إلى قاعدة للعيش المشترك بين جميع السوريين.