ملخص
الخطر هو وضع لبنان أمام خيارين، إما انفجار الوضع الداخلي وعودة الحرب الأهلية، كما يهدد “حزب الله” رداً على التفكير بسحب سلاحه، وإما إكمال إسرائيل الحرب براً وجواً وبحراً لتدمير ما بقي من سلاحه وقوته.
لبنان يبدو مثل عربة يجرها حصانان في اتجاهين متعاكسين، واحد يريد العودة لما كان عليه الوضع قبل حرب غزة ولبنان وإيران وسقوط نظام الأسد، مع قليل من التأثير والتكيّف، وآخر يريد إكمال التقدم الذي أحدثته التحولات الهائلة في الصراع الإستراتيجي والجيوسياسي في المنطقة وعليها.
والنتيجة حالياً هي جمود موقت في المشهد، إذ تعمل أميركا والسعودية ومعهما العرب والغرب على الدفع نحو الإسراع إلى التحرك نحو الأمام، لكن السلطة اللبنانية الجديدة التي جاءت بها التحولات تحاذر الإسراع في التحرك خوفاً على الاستقرار، وهذا ما اختبره الموفد الأميركي- اللبناني الأصل توم براك في أول امتحان خطي للسلطة في مادتين أساسيتين هما سلاح “حزب الله” وإصلاح المصارف والوضع المالي، إذ مدد المهلة المفتوحة لأسابيع إضافية.
ذلك أن براك يعرف أن رئيسه وصديقه دونالد ترمب هو “مفاوض ربح وخسارة على طريقة المقاول، لا يرى المشهد الواسع والترابط الداخلي والأثمان الكبيرة وخسارة النفوذ الكبير”، كما وصفته نائبة وزير الخارجية سابقاً ويندي شيرمان، ولذلك غض النظر عن خليط الشطارة المهتمة في الدبلوماسية والتشاطر المضر الذي هو خداع للنفس في الرد الرسمي على ورقته، فهو أدرك أن الضغط الشديد على لبنان لعبة خطرة على البلد والتشكيل الجديد للمنطقة، وكانت الصورة أمامه وأمام الجميع واضحة، الدولة مرتبكة حيال مصاعب سحب السلاح، سواء بالحوار أو القوة، على مستوى الرؤساء أو في مجلس الوزراء، ومجلس الأمن الدولي مستعد للمساعدة، لا لفرض تطبيق القرار (1701) بكل مندرجاته مع اتفاق وقف الأعمال العدائية، وأميركا تضغط على لبنان لا على إسرائيل التي تحتل التلال الخمس في الجنوب، وتكتفي بالضغوط وربط إعادة الإعمار وتحريك الاستثمارات والمساعدة في النهوض الاقتصادي والمالي بسحب سلاح “حزب الله”، من دون أية خطوة عملية لسحب السلاح.
والسلطة المرتبكة محرجة وتراهن على الانتظار إلى ما بعد المهلة الجديدة، فالتراجع عن التزام حصرية السلاح في خطاب القسم للرئيس جوزاف عون والبيان الوزاري لحكومة نواف سلام مسألة خطرة، والإقدام على تنفيذ الخطاب والبيان يوصف بأنه خطوة خطرة، والواقع أن السلطة ضعيفة و”حزب الله” ضعيف، فالسلطة ضعيفة وخائفة حتى من صدام مع الحزب الضعيف، والحزب الضعيف يهول ويوحي أنه قادر على تحدي السلطة الضعيفة والقوى المحلية وراءها والقوى العربية والدولية الداعمة لها، لكن الخطر هو وضع لبنان أمام خيارين، إما انفجار الوضع الداخلي وعودة الحرب الأهلية، كما يهدد “حزب الله” رداً على التفكير بسحب سلاحه، وإما إكمال إسرائيل الحرب براً وجواً وبحراً لتدمير ما بقي من سلاح الحزب وقوته، كما تهدد حكومة العدو الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية.
وبكلام آخر فإن لبنان يبدو كأنه لا يزال في المأزق الذي خرج منه بقوة التحولات الهائلة، فقوى الممانعة تحاول الالتفاف على التغيير في السلطة وإفراغ التطورات الدراماتيكية في لبنان والمنطقة من جوهرها، والسلطة تعمل على مد الفرصة المفتوحة أمامها بعدما جاءت بها، على أمل أن يتغير اللاعبون بما يقود إلى تغير اللعبة، وأخطر ما يحدث هو أن تفقد التحولات الهائلة قوة الزخم في الوطن الصغير بعد خطوتين على طريق الدولة، إذ تصبح الانتكاسة حتمية.
بين سنة لبنان وسوريا: تاريخ مد وجزر ودماء
ومن الوهم أن تستمر سياسة النظر إلى لبنان على أساس أنه مجرد شبكة شديدة التعقيد من المصالح المحلية الضيقة والمصالح الإقليمية الواسعة، فالبلد الذي قاسى كثيراً في حروبه والحروب عليه، يستحق أن يبني دولة لجميع مواطنيه، ومن دون الدور الجديد للبنان، مع استعادة الهوية التاريخية والقدرة على الإبداع الأدبي والفني والعلمي، فإن الخريطة الجديدة للشرق الأوسط وتحولاته الإستراتيجية والجيوسياسية تصبح ناقصة، لا بل إن لبنان، بصرف النظر عن مصير النفوذ الإيراني، لن يكون في المحور المعادي للعرب والغرب، فهو عضو أصيل وطبيعي في هذا المحور، فضلاً عن أن التهديد بالحرب الأهلية ليس مجرد موقف سياسي بمقدار ما هو جريمة سياسية وطنية موصوفة، ولا أحد يجهل لماذا يبالغ المرشد الأعلى علي خامنئي في توصيف المقاومة بأنها “أوسع من رفض إملاءات العدو إلى مواجهة أميركا والعمل على سحب قواتها من غرب آسيا”، ولا أحد يعرف كيف يستطيع خامنئي أن يتجاوز ما انكشف من نقاط ضعف خطرة في إيران، عسكرياً وتكنولوجياً واستخبارياً واقتصادياً، لكن الكل يعرف أن ما كان مغطى بعنوان الصراع مع العدو الإسرائيلي بات مكشوفاً تماماً من دور السلاح بيد “حزب الله”، وأنه سلاح مذهبي أيديولوجي يدعي حماية الشيعة ويسعى إلى الغلبة بقوة السلاح والديموغرافيا، فوق ارتباطه بالمشروع الإقليمي الإيراني.
ولا دور لأحد، ولا حماية لأية طائفة إلا بالدولة القوية العادلة الوطنية، دولة المواطنة المدنية، والسؤال حول مسافة المهلة الجديدة الأميركية أمام لبنان هو: هل ما تعمل له السلطة هو ترويض مسألتي السلاح والإصلاح على الطريق إلى أية تسوية أو الاصطدام بالجدار؟ أم استمرار الدوران حول الأزمات؟ وماذا يعني الحديث عن مقاومة مع وقف التنفيذ ثم مطالبة “حزب الله” بشروط المنتصر على الدولة قبل أميركا والعرب وإسرائيل؟ وما ينطبق علينا هو قول لامبيدوزا في “الفهد” إن “تغيير كل شيء قليلاً جداً هو ضمان لبقاء كل شيء على حاله”.