ملخص
بدأ حزب العمال الكردستاني مرحلة جدية في مسار عملية السلام مع تركيا عبر إلقاء رمزي لأسلحته في جبال كردستان العراق، في حين ينتظر أن يعلن الرئيس التركي عن خطوات مقابلة اليوم السبت.
في تمام الساعة الـ11:30 من صباح أمس الجمعة ألقت مجموعة مؤلفة من 30 مقاتلاً ومقاتلة من حزب العمال الكردستاني أسلحتهم في جبال محافظة السليمانية بكردستان العراق، وذلك استجابة لدعوة قائدهم المعتقل في جزيرة إيمرالي التركية عبد الله أوجلان الذي يسعى في التحضير لعملية سلام مع السلطات التركية منذ أشهر.
دلالات تاريخية
عملية إلقاء السلاح جرت في مراسم رمزية في كهف جاسنة الذي يحمل دلالات تاريخية في النضال الكردي، حيث كان مقراً للشيخ محمود الحفيد الذي أعلن مملكة كردستان عام 1919 رفضاً لسلطة البريطانيين في العراق، وكذلك كان مأوى للبيشمركة في السنوات اللاحقة في صراعهم مع الحكم في بغداد.
يعد كهف “جاسنة” الواقع على بعد 50 كيلومتراً غرب مدينة السليمانية، وتحديداً في منطقة سورداش قرب الطريق المؤدي إلى مصيف دوكان، واحداً من أبرز المعالم التاريخية في الذاكرة الكردية. ويقع الكهف خلف قرية كاني خان عند سفح أحد الجبال الشاهقة، ويعرف بين سكان المنطقة بـ”كهف شيخ محمود الحفيد البرزنجي”، ولجأ إليه عام 1923 خلال قصف السليمانية من قبل سلاح الجو البريطاني. كما شهد الكهف إصدار صحيفة “بانكي حق” الكردية عام 1923، وكان المقر السري لها.
اختيار المكان حمل دلالة رمزية أضفاها تقدم صفوف المقاتلين الرئيسة المشتركة لمنظومة المجتمع الديمقراطي، أحد تشكيلات العمال الكردستاني، بسي هوزات، وثلاثة قياديين آخرين، ثم تُلي بيان للرأي العام أكد التزامهم دعوة قائدهم المسجون للركون إلى العمل السياسي بدلاً من الكفاح المسلح، وذلك أمام حشد من الشخصيات السياسية الكردية، وحزب المساواة والديمقراطية المقرب من الأكراد في تركيا، وناشطين ومثقفين، إضافة إلى عشرات وسائل الإعلام الكردية والعالمية.
مراسم إحراق السلاح من قبل حزب العمال الكردستاني (أ ف ب)
وبدأ بيان العمال الكردستاني بالتأكيد على النداء الذي أطلقه قائده عبدالله أوجلان في تصريحه الأخير بتاريخ الـ19 من يونيو (حزيران) الماضي، وكذلك “نداء السلام والمجتمع الديمقراطي” الذي أطلقه أوجلان في الـ27 من فبراير (شباط) الماضي، وأخيراً قرارات وتوصيات المؤتمر الـ12 لحزب العمال الكردستاني، الذي انعقد بتاريخ الخامس إلى السابع من مايو (أيار) من العام الجاري.
وشدد الحزب على أن خطوته تأتي لأجل إنجاز وإنجاح مرحلة “السلام والمجتمع الديمقراطي”، و”تعبيراً عن نيتنا الحسنة، وعن عزمنا الصارم من الآن فصاعداً في خوض نضال الحرية والديمقراطية والاشتراكية عن طريق السياسة الديمقراطية والسبل القانونية، وتأسيساً على سن قوانين التكامل والاندماج الديمقراطي، فإننا نقوم، بإرادتنا الحرة، وبحضوركم جميعاً، بإتلاف أسلحتنا”.
كما أكد صعوبة المرحلة المقبلة بعد “تضحيات كبيرة” خلال السنوات الماضية، حيث يخوض الحزب كفاحاً مسلحاً ضد تركيا منذ عام 1984، في حين أنه تأسس عام 1978، لكنه يدرك “صحة وضرورة وأهمية هذه الخطوة التاريخية”، داعياً فئات الشعب الكردي للدخول في العملية المقبلة وتنظيم أنفسهم، مطالبين الجهات الإقليمية والدولية باحترام الحقوق القومية الديمقراطية والمشروعة للشعب الكردي، وأن تدعم وتساند مرحلة الحل السلمي والديمقراطي، وفق تعبير البيان الذي أُلقي باللغتين الكردية والتركية في المراسم، مختتماً دعوته للعمل من أجل إطلاق سراح قائده أوجلان، وحل القضية الكردية “سياسياً وديمقراطياً”.
“ليس استسلاماً”
بعد الإدلاء بالبيان “التاريخي” الذي أصدر باسم “مجموعة السلام والمجتمع الديمقراطي”، تقدمت هوزات رفقة القيادي نديم سفن نحو مكان إلقاء السلاح، ثم تناوب بعدها المقاتلون رجالاً ونساءً الذين ألقوا بأسلحتهم المختلفة داخل حوض حديدي، ومن ثم أضربت القيادية هوزات النار في الأسلحة المتكومة، في خطوة رآها المراقبون “لا تعني الاستسلام أو الانكسار، إنما إتلاف طوعي لأسلحتهم من أجل السلام”.
البرلماني الكردي في حزب المساواة والديمقراطية محمد كاماتش تحدث من مكان المراسم إلى “اندبندنت عربية” معبراً عن مشقة طريق الوصول إلى هذه المرحلة لما بذله قائد العمال الكردستاني من مفاوضات صعبة من أجل تحقيق تقدم لحل القضية الكردية في تركيا عن طريق السلم، حيث أسس لهذه المرحلة خطوة خطوة وصولاً إلى إلقاء مجموعة من المقاتلين لأسلحتهم.
وأشار كاماتش إلى التزام مقاتلي العمال الكردستاني بدعوات ونداءات زعيمهم أوجلان، وأنها تشكل مرحلة جديدة في تاريخ حراكهم وللشرق الأوسط، “حيث لأول مرة يلقي تنظيم عسكري أسلحته بشكل طوعي ودون ضغوطات خارجية وينهي مرحلة الكفاح المسلح ويبدأ مرحلة جديدة”.
لكن البرلماني الكردي لفت الانتباه إلى أن هذه العملية حتى الآن تسير من قبل طرف واحد، معتبراً أن هذه الأحادية في التنفيذ تجري بعملية مدروسة من أجل تأسيس أرضية سياسية وقانونية، “فالمشاهد التي رأيناها من قبل العمال الكردستاني في إلقاء سلاحه كانت رسالة للكرديين جميعاً ولشعوب الشرق الأوسط وللعالم بأنه جاهز لحل جميع مسائل القضية الكردية بالطرق الديمقراطية”، معتبراً أن هذا العمل من طرف واحد يلقي بالكرة إلى جانب الحكومة والدولة التركية، وعليه وبحسب كاماتش “فلابد من الدولة التركية أن يكون لها موقف واستجابة أمام هذه الخطوات ونأمل أن تتخذ الخطوات اللازمة لذلك”.
ألقت مجموعة مؤلفة من 30 مقاتلاً ومقاتلة من حزب العمال الكردستاني أسلحتهم في مراسم رمزية قرب السليمانية (أ ف ب)
ويعول البرلماني من حزب المساواة والديمقراطية على “الخطاب التاريخي” الذي أعلن القادة الأتراك عن موعده اليوم السبت للرئيس رجب طيب إردوغان، مضيفاً أنهم ينتظرون هذا الخطاب وكذلك الخطوات التي ستقوم بها مؤسسات الدولة، معبراً عن أمله بأن تكون “لائقة بمستوى المرحلة ويعبر عن موقف صائب تجاهها بما يناسب عملية السلام والديمقراطية في البلاد”، على حد تعبيره.
ترحيب بالخطوة
وفور انتهاء المراسم أشاد الرئيس التركي بالخطوة التي قام بها العمال الكردستاني بإحراق مجموعة من مقاتليه لأسلحتهم، واصفاً إياها بـ”خطوة مهمة نحو تركيا خالية من الإرهاب”، في حين يتوقع أن يدلي اليوم السبت بخطاب يتناول فيه خطوات الحكومة التركية استجابة لعملية السلام مع العمال الكردستاني.
أما الخارجية العراقية فقد رحبت بالإعلان الصادر من حزب العمال الكردستاني في شأن بدء “عملية تسليم السلاح”، واعتبرت هذه الخطوة “تطوراً مهماً يجسد بداية فعلية لمسار نزع السلاح، ويمثل فرصة حقيقية لدعم الاستقرار وتعزيز جهود المصالحة الدائمة في المنطقة، بما يسهم في إنهاء حلقات العنف، وفتح آفاق جديدة للتفاهم والتعايش السلمي”.
وأعربت وزارة الخارجية عن “دعم العراق الكامل لهذا المسار، مؤكدة أن هذه الخطوة تمهد لمرحلة جديدة من التعاون البناء مع الجارة، الجمهورية التركية، على أساس العمل المشترك في معالجة التحديات الأمنية، بما يعزز سيادة العراق وتركيا ويحفظ أمنهما واستقرارهما”.
من جهتهم، رحبت القيادات الكردستانية العراقية بخطوة العمال الكردستاني التي استضافتها مناطقهم، حيث استقبل الزعيم الكردي ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني – العراق مسعود بارزاني في مقره بمصيف صلاح الدين الرئيس المشترك لحزب المساواة والديمقراطية تونجر بكرخان والساسة الأكراد المرافقين كأحمد ترك وليلى زانا وسري ساكك، الذين حضروا مراسم إلقاء السلاح، مطالبين بارزاني بضرورة زيارة أوجلان، والذي بدوره بين أنه سيقوم بها في ظروف مناسبة. كما أكد بارزاني أن العملية خطت خطوات جيدة نحو السلام، وأن “10 سنوات من المفاوضات أفضل من ساعة من القتال الذي لا يمكنه حل أي مسألة”، منوهاً إلى أن هذه العملية تحتاج إلى إجراءات موسعة ودقيقة، مطالباً الأطراف الكردستانية بدعم ومساندة عملية السلام في تركيا، وفق بيان صادر عن مقره.
من جهته قال رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني نجل الرئيس العراقي السابق جلال طالباني إن إلقاء السلاح من قبل أعضاء حزب العمال الكردستاني في السليمانية خطوة تاريخية نحو بدء مرحلة جديدة من الحوار والسلام في شمال كردستان وتركيا. وأضاف أن “حزبه يؤمن بشكل تام أن سفك الدماء سيعمق الخلافات، وأن الوقت قد حان لجعل الأسلحة صامتة واللجوء إلى طاولة الحوار لتحقيق المكاسب المشروعة لجميع الأطراف”، وتابع أنه “بينما نواصل جهودنا لإنجاح عملية السلام، نفتخر بأن أسس السلام التي وضعها الرئيس مام جلال قد تُنفذ اليوم”، معبراً عن أمله بأن تكون هذه الخطوة بداية مرحلة جديدة لتطبيع العلاقات بين جميع الأطراف، وأن يكون لها تأثير مباشر في استقرار إقليم كردستان.
المحاولة الثالثة
وتعد هذه العملية الثالثة من نوعها في محاولة التقرب وإيقاف القتال بين تركيا والعمال الكردستاني، أولها كانت في عهد الرئيس التركي السابق ترغوت أوزال عام 1993، وحينها توسط طالباني الأب حينما كان أوجلان مقيماً في دمشق، وكانت المحاولة الأولى منذ انطلاق العمل المسلح للعمال الكردستاني، لكنها فشلت واشتدت المعارك والقتال بين الطرفين.
في حين بدت معالم محاولة ثانية في أواخر 2012، وبالفعل جرى وقف لإطلاق النار في 2013 حتى 2015 من دون الوصول إلى أي اتفاق سلام واضح بين الطرفين، لتندلع الاشتباكات وتوسع تركيا عملياتها العسكرية في كل كردستان العراق وشمال وشمال شرق سوريا لاحقاً، لتأتي المصافحة الشهيرة لزعيم حزب الحركة القومية دولت باهتشلي في أكتوبر (تشرين الأول) 2024 لكتلة حزب المساواة والديمقراطية، ويفتح مبادرة جديدة للسلام أو “إنهاء الإرهاب” كما يفضلها القوميون الأتراك، لتتوج الجمعة بخطوة رمزية لإلقاء العمال الكردستاني لسلاحه في انتظار الخطوات اللاحقة التي تفتح باب الاحتمالات نحو السلام أو الحرب مجدداً في ظل متغيرات دولية وإقليمية حادة.