القادم لا يخلو من التحديات
منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، تحولت سوريا إلى ساحة للصراعات ومحورا لتشابك المصالح الإقليمية والدولية بين الفاعلين المؤثرين في الملف السوري. وعقب سقوط نظام الأسد، تقف سوريا اليوم أمام مرحلة جديدة لا تخلو من التحديات، خاصة أن التحولات على المستويات الإقليمية والدولية تفرض مسارًا على الإدارة الجديدة في سوريا، يتطلب تعبيده بمقاربات وطنية تؤسس لمشهد سياسي مستقر، لاسيما أن القوى الإقليمية والدولية تسعى بوضوح لإعادة صياغة دورها في المشهد السوري بما يحقق لها مكاسب إستراتيجية. وفي المقابل، فإن السلطات الجديدة في دمشق مُطالبة اليوم بترسيخ مسار وطني توافقي في ظل إدارة دولية تتعامل مع الملف السوري بمنظورها الخاص.
وبين هذا وذاك، تقف سوريا أمام مشهد قوامه تداخل المصالح بين القوى الإقليمية والدولية، تزامنًا مع تحديات داخلية، الأمر الذي يفرض على السوريين تأسيس معادلة وطنية تكون سببًا في الحد من تأثيرات القوى الفاعلة والمؤثرة في الملف السوري، وهو ما يتطلب وضوحًا سياسيًا وتشاركية تنسج مقاربات وطنية تؤسس لسوريا الجديدة ضمن مسار ديمقراطي تعددي.
الحديث عن المقاربات الوطنية التي يجب اعتمادها في سوريا عقب سقوط نظام الأسد يحقق مسارين في غاية الأهمية: الأول يتعلق بالإدارة الجديدة التي يجب أن تبني مساراتها بما يناسب تطلعات السوريين وتوافقاتهم حيال شكل سوريا الجديدة، بغية تجنب أخطاء النظام السابق؛ والثاني يرتكز على السوريين أنفسهم الذين يجب أن يقدموا تصورات سياسية وازنة وفاعلة تتقاطع مع مفاهيم الديمقراطية والتعددية. وباتساق المسارين، يتحقق حتمًا الاستقرار والوصول إلى سوريا الجديدة.
◄ التماهي بين المسار الخارجي الذي تعتمده الإدارة السورية الجديدة يجب أن يتم تدعيمه بخطوات داخلية تحقق السلم الأهلي، واعتماد الحوار الوطني وسيلةً للوصول إلى سوريا ديمقراطية تعددية
لا يمكن إغفال جزئية أن الإدارة السورية الجديدة تواجه تحديات سياسية وأمنية معقدة. ولعل اعتماد الإدارة الجديدة على دبلوماسية تحقق توازن العلاقات الإقليمية والدولية قد يساعد، في الشكل، على ترسيخ أسس الحكم الجديد. لكن في العمق، لا بد من تعزيز التوازن الخارجي بتوازن داخلي عميق، قوامه مقاربات وطنية تحقق تطلعات السوريين، خاصة أن سوريا اليوم كالمولود الجديد، يحتاج إلى عناية فائقة، ويجب أيضًا الحرص على حمايته من الخارج بغية بناء الدولة السورية بالطرق القانونية والدستورية.
فالتطورات الدراماتيكية التي شهدتها سوريا خلال الفترة الأخيرة، بدايةً من سقوط نظام الأسد وصولاً إلى إدارة جديدة تطمح إلى إرساء الأمن والاستقرار، تفرض تحديات كثيرة، لاسيما أن جراح السوريين لا تزال تنزف، وتحتاج إلى علاج سريع للجروح العميقة التي خلفها نظام الأسد. ومع محاولات السلطات الجديدة ترتيب الأوراق السياسية لكسب الخارج، بغية التعاطي مع مرحلة سقوط نظام الأسد وفق معطيات جديدة تعالج آنيًا حالة الاختلال السياسي والأمني في الداخل السوري، فقد تم اعتماد مسارات سياسية لم تناسب غالبية السوريين، وكانت سريعة بطريقة تثير الريبة وترفع من مستويات القلق لدى غالبية السوريين حيال شكل سوريا الجديدة ومستقبلها. ولعل مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في شباط الماضي، مرورًا بمؤتمر الفصائل، وصولاً إلى الإعلان الدستوري، فإن كل تلك المسارات لم يتم بناؤها وفق مقاربات وطنية تحقق تطلعات السوريين، بل جاءت وفق آلية لسد الفراغ السياسي.
يتفهم الكثيرون أن التحديات التي تواجه الحكام الجدد في سوريا تتقاطع مع رغبتهم في تعزيز تواجدهم من خلال الشرعية الإقليمية والدولية. لكن، بالتوازي، فإن الأساس يبقى في الداخل السوري الذي يجب أن يُحكم وفق مقاربات وطنية شاملة تؤسس لمشهد سياسي مستقر. وإن بدا أن المشهد السياسي والأمني في سوريا مستقر إلى حد ما، فإنه يعاني من اختلالات تصطدم بمصالح إقليمية ودولية، تحديدًا مصالح تركيا وإسرائيل، إضافة إلى قوى إقليمية أخرى.
ولننظر جيدًا إلى المشهد الإقليمي، ونأخذ العبر والدروس من التطورات الإقليمية التي بدأت منذ عملية “طوفان الأقصى” وصولاً إلى سقوط نظام الأسد، الذي زج السوريين في معارك إقليمية خاسرة. وهذا الأمر يجب أن يكون درسًا يحترم الجميع معانيه. وبالتالي، فإن المقاربات الوطنية وبناء مشهد سياسي مستقر ومتوازن في سوريا يعززان وحدة السوريين وتطلعاتهم، وهما الطريق الأمثل للوصول إلى سوريا ديمقراطية تعددية، ودستور تتم صياغته وفق تطلعات السوريين.
الإدارة الجديدة عليها اعتماد معادلة بشقين: الأول، التماهي مع رغبات غالبية السوريين في سوريا ديمقراطية تعددية تشاركية تؤسس لمشهد وطني سياسي قادر على التصدي للتطورات الإقليمية والدولية، ويكون سببًا في الحد من تأثيراتها وتأثيرات مصالح القوى الإقليمية والدولية في سوريا الجديدة؛ والثاني، اعتماد مسار متوازن في العلاقات مع المحيط وصولاً إلى الغرب، لكن حتى هذا المسار يجب أن يكون وفق معايير وطنية تحقق ما يريده السوريون حيال احترام تطلعاتهم والمحافظة على سيادة القرار الوطني.
◄ الإدارة السورية الجديدة تواجه تحديات سياسية وأمنية معقدة. ولعل اعتماد الإدارة الجديدة على دبلوماسية تحقق توازن العلاقات الإقليمية والدولية قد يساعد، في الشكل، على ترسيخ أسس الحكم الجديد
يبدو واضحًا أن خطوات الإدارة الجديدة منذ سقوط نظام الأسد وحتى اليوم هي خطوات هشة لم تعزز الاستقرار السياسي والأمني في سوريا. وبالتوازي، فإن عملية التشبيك الإقليمي والدولي التي تجريها القيادة الجديدة بغية إعادة الإعمار وتحقيق التنمية والاستقرار يجب أن تُنسج وفق منظور داخلي وطني. وهذا ما يتطلب من الإدارة الجديدة أن تقوم بالتشبيك مع القوى الوطنية في الداخل من تيارات وأحزاب، بغية تحقيق استقرار أكثر استدامة، خاصة أن التشبيك مع القوى الوطنية في سوريا يعمل على الحد من تأثير مصالح القوى الإقليمية والدولية في سوريا الجديدة.
البناء السياسي القوي يبدأ من الداخل وتتفرع مساراته في عملية تشبيك مع القوى الإقليمية والدولية، بما يحقق حالة من التوازن بين الداخل والخارج. ولنا في ذلك دليل واضح على أن النظام السابق تجاهل تطلعات السوريين السياسية على مدى سنوات الصراع، وفضّل الإبقاء على التشبيك مع الخارج، الأمر الذي أدخل سوريا والسوريين في دوامة العنف، وتهديم البنى التحتية، وتهجير السوريين. والنتيجة كانت سقوطًا مدويًا لنظام حكم السوريين وفق منظوره الخاص. وبالتالي، فإن الإدارة الجديدة عليها التماهي مع متطلبات السوريين وتطلعاتهم السياسية، واللجوء إلى الحوار والتشاركية مع القوى الوطنية السورية. وضمن ذلك، فإن الداخل يحقق الاستقرار أكثر من الخارج، تحديدًا عند اعتماد مقاربات وطنية شاملة تلبي تطلعات السوريين.
ختاما، الإدارة السورية الجديدة تعتمد على المسار الخارجي بغية تحقيق الاستقرار السياسي في الداخل. هذه الموازنة التي تعتمدها السلطات السورية قد تحقق نوعًا من الاستقرار على المستويات كافة، لكنه استقرار سيبقى هشًا إن لم تحكمه توافقات ومقاربات وطنية. وهذا مدعاة إلى تدعيم الخطوات الخارجية بخطوات داخلية تعتمد منهج المقاربات الوطنية ورغبات السوريين ومشاركتهم في آلية صنع القرار.
فالتماهي بين المسار الخارجي الذي تعتمده الإدارة السورية الجديدة يجب أن يتم تدعيمه بخطوات داخلية تحقق السلم الأهلي، واعتماد الحوار الوطني وسيلةً للوصول إلى سوريا ديمقراطية تعددية. دون ذلك، فإن سوريا ستبقى بعيدة عن مفهوم الدولة الحديثة، وسيبقى المشهد السياسي والأمني بعيدًا عن حالة الاستقرار، في ظل إدارة جديدة لا تزال ترى في الخارج ركنًا من أركان استقرارها.