–
أثارت توجّهات السلطة السورية الجديدة وأهدافها الغامضة هواجس ومخاوف سوريين كثيرين، على خلفية ميلها الصريح إلى الانفراد بالقرارات وتجاهل تحفّظات قوى سياسية واجتماعية على هذه التوجهات والقرارات، وغياب الشفافية والوضوح حول طبيعة النظام السياسي المستهدف تأسيسه خلال المرحلة الانتقالية والقواعد التي سيقوم عليها، خاصّة أنها قد تجنّبت ذكر الديمقراطية خياراً، ما دفع كثيرين للاعتقاد بأنها ستتبنى، في ضوء خلفيتها السلفية، الشورى قاعدة للنظام السياسي، مع أنها لم تعلن ذلك صراحة. فما الشورى وما الديمقراطية وهل تتفقان في شيء أم أنهما مختلفتان بالمطلق؟
الشورى بالتعريف استشارة أهل الخبرة والرأي في أمر من الأمور لاتخاذ القرار الأنسب، سواء في الأمور الشخصية أو العامّة. والشورى في الإسلام مبدأ أساسي في النظام السياسي، فقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” (آل عمران 159)، ووردت في صيغة ثانية في قوله تعالى: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (الشورى 38). وقد سميت السورة سورة الشورى لإبراز أهمية هذه الأخيرة.
جاءت الشورى في الآية الأولى بصيغة أمر من الله لنبيه يطالبه فيه بمشاورة المسلمين قبل أخذ أي قرار في شؤونهم، وجاءت في الثانية باعتبارها من سمات المسلمين، أي أنها أسلوب حياة بالنسبة إليهم. والهدف من تطبيق الآية الأولى إشعار الفرد بقيمته في المجال العام وزيادة فرص اختيار الحل الصحيح باستشارة أهل الخبرة والرأي لتجنّب الوقوع في الأخطاء التي قد تحدث نتيجة لاتخاذ القرارات الفردية، كما يقود إشراك المجتمع في اتخاذ القرارات التي تخصّه إلى تعزيز مبادئ العدل والمساواة، فيتم الأخذ بآراء الجميع والتشاور معهم قبل اتخاذ القرار، ما يزيد من تماسك المجتمع ويقوّي روابطه. وتطبيق الآية الثانية يضمن الاستقرار والازدهار المستدام.
حصلت الديمقراطية على قبول مجتمعات كثيرة ونالت تقديراً واسعاً لما حققته في المجتمعات التي طبقتها من إنجازات
أما تعريف الديمقراطية فحكم الشعب بالشعب وللشعب، إذ يمتلك كلّ مواطن الحقّ في المشاركة في إدارة شؤون الحكم في بلاده، عبر مشاركته في اختيار من يمثله في البرلمان في انتخابات حرّة ونزيهة، ما يجعله مشاركاً بصورة غير مباشرة في اتخاذ القرارات التي يتخذها البرلمان. والنظام الديمقراطي وضعي، إبداع إنساني، نشأ في الغرب حيث تطوّر وتعزّز بالاستناد إلى مجموعة مرتكزات من سيادة القانون، تطبيق القانون على جميع المواطنين من دون استثناء، والمساواة بين الجميع أمامه، إلى احترام حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية، مثل حرّية التعبير، وحرّية التجمّع، وحرّية الصحافة، إلى حقّ الجميع في المشاركة في العملية السياسية، سواء بشكل مباشر أو من خلال ممثليهم المنتخبين، إلى توفير المساواة وتكافؤ الفرص للجميع، بغض النظر عن جنسهم أو عرقهم أو دينهم، ذلك كلّه تحت سقف الشفافية والمساءلة، إذ يجب على الحكومة أن تكون شفافة في تعاملاتها، وأن تكون مسؤولة أمام الشعب.
حصلت الديمقراطية على قبول مجتمعات كثيرة، ونالت تقديراً واسعاً لما حققته في المجتمعات التي طبقتها من إنجازات، من التطوير السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى ضمان حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية وتعزيز للمشاركة الشعبية في صنع القرار، ما فرض استجابة الحكومة لاحتياجات المواطنين وأسس للنمو والازدهار، ولتحقيق تنمية مستدامة وتعزيز السلم الأهلي.
وعليه، يمكن أن نحدّد الاتفاق والاختلاف بين الشورى والديمقراطية عبر المقارنة. الاتفاق الأول والرئيس حقّ الأمة/ الشعب في اختيار الحاكم ومراقبته ومحاسبته، ما يعني العدل والمساواة ورفض الظلم والتمييز والاستبداد، مع فارق أن السيادة في الإسلام للشريعة، أي لله، مصدر الشريعة، والسيادة في الديمقراطية للشعب، فالشورى والديمقراطية يمكن أن تلتقيا في آليات إدارة الدولة ومصالحها، المأسّسة والانتخابات والبرلمان والفصل بين السلطات، وتختلفان في منطلق التشريع، ففي الشورى مرتبط إلى حدّ كبير بالنصّ المؤسّس، القرآن الكريم، بعلاقة ثابتة ودائمة، بينما يرتبط في الديمقراطية بنظريات سياسية واجتماعية واقتصادية طرحها مفكّرون وفلاسفة، فشكّلت فلسفة الحكم فترة محدّدة، فترة فوز حملتها في الانتخابات البرلمانية، إذ تتغيّر وفق صراع الأفكار والنظريات وتوازن القوى الاجتماعية والتدافع بين الناس حول الحقوق الفردية والجماعية، فتغيّر العقائد الأساسية والنظريات في الديمقراطية متاح ومستمر وبمرونة عالية، بينما هي في الشورى ثابتة لارتباطها بمصدر ثابت يؤطرها ويرسم تخومها؛ علماً أن التنظير الحديث للشورى دفع المفكّرين المسلمين إلى الانخراط في صراع فكري بيني حول اجتهادات الفقهاء ومدى إلزامية تقيدهم بالنصّ القرآني، من جهة، ومدى اعتبار اجتهادهم ملزماً لدى بعض المفكرين، باعتبار أنه جاء تحت سقف النصّ القرآني، في حين هي (الاجتهادات) غير ملزمة لدى مفكّرين آخرين، لأنها يجب أن لا تقيّد الحاكم في اختيار ما يراه مناسباً، لكن يمكن الاستئناس بها.
مدى الشورى عند مفكّرين أوسع من الديمقراطية، فهي أسلوب حياة يشمل كلّ الأطر الاجتماعية
كما يختلفان في اتساع ساحة الفعل، فيقتصر عمل الديمقراطية على الدعوة إلى نظرية في إدارة الدولة والحكومة ومؤسّساتها ومصالحها من أجل جذب الناخبين وتحقيق الفوز يوم الانتخابات البرلمانية والنقابية، أمّا الشورى فمداها (باعتبارها أسلوب حياة) أوسع، يشمل كلّ الأطر الاجتماعية: الأسرة والحي والمدرسة والعمل والحكومة، ما يجعلها أكثر استجابةً لدورة حياة المجتمع.
أشار مفكّرون مسلمون إلى عامليْن آخريْن يشيران إلى تفوق الشورى على الديمقراطية، أولهما أن دور الفقهاء في المجال الإسلامي يجعل منهم سلطة رابعة، ويجعل فصل السلطات واقعاً فعلياً، في حين أن الديمقراطية، بصيغتها المتداولة، من انتخابات وحزب الأغلبية البرلمانية يشكّل الحكومة، أقامت تداخلاً بين السلطتين التشريعية والقضائية. قول فيه تجاهل لوجود منظّرين للديمقراطية، وآخرين يضعون برامجَ وخططاً لتطوير التجربة وجعلها أكثر دقّة وشمولية، ما يعني أن ثمّة فقهاء في النظام الديمقراطي أيضاً، وأمّا اعتبار وجود دور مؤثّر للفقهاء في التشريع، ما يجعل فصل السلطات واقعاً فعلياً فليس منطقياً، لأن دور الفقهاء في هذه الحالة سلاح ذو حدّين، قد يعزز فصل السلطات في حال اتفاق الفقهاء على فتوى واحدة لقضية محدّدة، وقد يجعله ساحةً للجدل إذا تعدّدت الفتاوى، ولطالما حصل هذا التعدّد والتباين كثيراً. ثانيهما ارتباط التشريع بالشريعة يجعله هدفاً للمسلمين لأنهم يؤدّون به واجباً دينياً إلى جانب الواجب الدنيوي، فكلّ عمل يقوم به المسلم ينطوي على بعدَين: فرض ديني وواجب اجتماعي في الوقت نفسه، فالشورى مرتبطة بعدد من المعايير الأخلاقية، بينما الديمقراطية ليست لها معايير أخلاقية مسبقة ما جعلها تسمح للفرد أن يختار المعايير حسب الاحتياجات والرغبات السائدة في عصره.
كيف فقدنا الشورى؟
في العودة إلى التوجيه الإلهي في المجال السياسي، نلمس وجود هيكل عام، أساسه خضوع المسلمين للتوجيهات الواردة في القرآن الكريم، فلا يشعر مسلم، حاكم أو محكوم، بأنه أكبر أو أصغر من غيره، فالكلّ مطالبون بالرجوع إلى الهَدي الإلهي والالتزام به، أساساً لصياغة مجتمعٍ موحّدٍ بقيمه وتعاليمه من جهة، وتوجّه، من جهة ثانية، إلى المساواة والعدل، إذ الجميع يخضعون لمعيار واحد، ما منح الشورى فرصةَ الاستناد إلى قاعدة فكرية وأخلاقية واجتماعية ثابتة وراسخة ومحطّ إجماع المسلمين. يمكن اعتبار هذا الأساس صورة مطابقة لما يقال لها في العصر الحديث مبادئ فوق دستورية. وهذا أسّس لمبدأ في الحكم قائم على حقّ الأمة في اختيار حكّامها ومراقبتهم ومحاسبتهم، طالما هم مثل الجميع ويخضعون مثل الجميع للتوجيهات والمعايير والقيم نفسها، والتزام المسلمين بالشريعة، أولاً وأخيراً، على أن يكون دورهم الاجتهاد في إطارها وتحت سقفها، شرحاً وتقعيداً وتفصيلاً وإعمالاً للعقل في القضايا التي لم يرد فيها نصّ، لوضع حلول مناسبة، على ألا تتعارض مع محدّدات النص، فالله هو المشرّع والفقهاء هم المجتهدون في إطار الشريعة.
لم تتحوّل الشورى، كما وجّه الهَدي الإلهي، إلى أسلوب حياة لدى المسلمين إلا في فترات قصيرة ومتباعدة، فقد انفجر الصراع السياسي بين المسلمين مبكّراً، وتحوّل الوئام والتلاحم إلى خصام وفرقة، بدأ في تباين المواقف من خلافة الرسول (عليه الصلاة والسلام) بين الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة، في إثر وفاته، وحسم الجدال بمبادرة من عمر بن الخطاب بمبايعة أبي بكر الصديق ودعوة الحاضرين في السقيفة إلى مبايعته، لما له من سابقة في الإسلام ولاختيار الرسول له للصلاة بالمسلمين خلال فترة مرضه. كانت هذه أولى تجاوزات المسلمين مبدأ الشورى. أدرك عمر الخطأ الذي وقع فيه، فقال إن ما حصل في السقيفة “فتنة” وقانا الله شرّها لن أعود إليها ثانية.
لم يقف تجاوز الهَدي الإلهي بتحويل الشورى أسلوب حياة في تجاوز المسلمين ومبايعة أبي بكر من دون مشاورة، بل تعدّاه إلى تكريس سابقة تحوّلت شرطاً واجباً توافره في الخليفة، تمثل ذلك في تبرير أبي بكر رفضه خلافة رجل من الأنصار، هو سعد بن عبادة، الرسول، لا لشخصه، بل لأن هذا الموقع حقّ لقريش، في تعارض صريح مع الهَدي الإلهي، الذي اعتبر المسلمين متساوين في القيمة والأهمية، والهدي النبوي، الذي اعتبر العصبية القبلية من الجاهلية. وزاد الطين بِلَّة رفض علي بن أبي طالب مبايعة أبي بكر بذريعة أحقيته في خلافة ابن عمّه ووالد زوجه، وأيده مسلمون عديدون، فحصل افتراق وتفاصل في المدينة المنورة. بقي على هذا الحال ستّة أشهر، قبل أن يبايع بعد أن يئس من تغيير الوضع وحصول تمرّد بعض القبائل على سلطة الخليفة، ورفضها دفع الزكاة للمركز، ما وضع الخلافة في موقف حرج.
يبقى الصراع السياسي بين التيارين الشوري والديمقراطي العقبة الرئيسة في وجه الاختيار الحرّ، على خلفية حملات التشويش والتشويه، وادعاء كلّ تيار امتلاكه الحقيقة
لم يقف تجاوز مبدأ الشورى عند هذه التجاوزات، بل حصل ما هو أشدّ وأعظم، أي تحويل الخلافة منصباً وراثياً على يد معاوية بن أبي سفيان، ملك عضوض، وفق وصف فقهاء ذلك الزمان، قبل أن يسنّ الخليفة العبّاسي الأول عبد الله بن محمّد، الشهير بأبي العبّاس السفاح، سُنّةً جديدةً لتحصين موقع الخليفة وسلطته بإحاطة نفسه بعدد من الفقهاء، واستخدامهم في إصدار فتاوى تمنح قراراته وممارساته شرعية دينية. وقد ازاد الموقف سوءاً على يد سلاطين بني عثمان، الذين تمسّكوا بالاستحواذ على السلطة والتمسّك بها عبر موقف شديد التطرّف بقيام كلّ سلطان/ خليفة بقتل إخوته كي لا ينازعوه هو ووريثه المُلك.
قاد هذا المسار إلى بقاء مبدأ الشورى بصيغته الأولية، فلم يخضع للتفسير والتقعيد، ولم توضع له آليات لتفعيله، كما بقية التوجيهات الإلهية. لم تتناوله اجتهادات الفقهاء، بل كان الموقف أكثر سوءاً من ذلك بكثير، حين قبل الفقهاء خلافة المتغلّب، واعتبروها شرعيةً، بذريعة تلافي الفتنة وحفظ بيضة الإسلام، وكأن الخروج على المبدأ الرئيس في إدارة المُلك لا يقضي على بيضة الإسلام من داخله.
عاد مفكّرون وفقهاء مسلمون في العصر الحديث إلى تناول مبدأ الشورى بالدرس والتحليل في سياق مواجهة ما ورد إلى المجال الإسلامي من مبادئ وأفكار غربية، الديمقراطية بشكل رئيس. لم يتناولونها لإصلاح حال المسلمين وإخراج مجتمعاتهم من الركود والتآكل، فيعملوا في تقعيدها ووضع آليات محدّدة لتفعيلها، بل كي يقولوا إننا مكتفون ولا تلزمنا الديمقراطية. موقف دفاعي خلفيته الارتباك والعجز. وقد قادت محاولاتهم لترويجه إلى إدخاله في موقف يكاد يلغيه، عندما اختلفوا حول التعاطي مع نتائج عملية التشاور، بين قائل إنها ملزمة وقائل إنها معلمة.
أيهما نختار الشورى أم الديمقراطية؟
لا يشكّل اختيار الشورى أو الديمقراطية أسلوباً لإدارة نظامنا السياسي مشكلةً في حدّ ذاته، المشكلة في الأرضية التي يستند إليها هذا الاختيار أو ذاك، وتجعله قابلا للتطبيق، فالشورى لها أرضية واسعة على خلفية ارتباطها بدين الأغلبية، لذا سيقبلها كثيرون، حتى من دون أن يدركوا أبعادها، وما يمكن أن تحقّقه على الصعيد العملي، سيقبلونها لأنها فقط وردت في القرآن الكريم، مع أنها لم تكن حاضرةً في تاريخ المسلمين، لم يعش المسلمون في ظلّها وينعموا بإيجابياتها، واختيارها الآن يستدعي إعادة إدراكها مفهوماً وامتداداته، وما يحتاجه تطبيقها من مؤسّسات وأطر سياسية واجتماعية وزرعه في وعينا كي يزيح تاريخاً كاملاً عشناه بعيداً عنها، وتحديد تخومها وما ستحدثه في حياتنا من تغيير وتثوير يحقّق الاستقرار والازدهار، فتنزيلها في واقعنا سيحرّرنا من صورة الخليفة التي استقرّت في وعينا وشكّلت مخيالنا عن النظام الصالح، الصورة التي اعتبرها مفكّرون مسلمون كثر نمط الحكم الإسلامي، وأعادوا تسويقها تحت صيغة المستبدّ العادل. كما يستدعي اختيارها التأكيد على أن نتائجها ملزمة كي تكون فعّالة في إخراجنا من تأرجحنا بين التاريخ والشريعة، ويستدعي بشكل خاص تحديد قواعد لتنزيلها في حياتنا نظاماً وأسلوب حياة.
تواجه الديمقراطية، هي الأخرى، تحدّيات كثيرة وكبيرة، لأنها، مفهوماً ونظاماً سياسياً، طارئة على الاجتماع السوري، ما جعل أرضيتها (قياساً إلى أرضية الشورى) ضيّقةً، حالةً نخبويةً. لذا سيكون لاختيارها نظاماً سياسياً عقبة رئيسة، هي تبريرها وتسويقها لدى قطاعات واسعة من المجتمع، وما يستدعيه ذلك من جهد وعمل، بدءاً بزرعها مفهوماً في وعي المجتمع، شرحاً وتفسيراً، وتحريرها من التشويه الذي لحق بها نتيجة الصراع السياسي بين التيّارات الفكرية والسياسية، وما يرافقها من حملات دعائية مسيّسة، يلي ذلك رسم صورة لأبعادها، وللبنى السياسية والمدنية المرتبطة بها، ودورها في حياتها، وللأحزاب والنقابات والمنظّمات الحقوقية والإعلام الحر، وتبرير اختيارها في ضوء المتوقّع من تطبيقها في نظامنا السياسي على صعيد إشراك المواطنين في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، مباشرة أو عبر ممثليهم، وما يترتب على ذلك من استقرار وازدهار.
في قفز عن الشورى في التاريخ الإسلامي تحولت الخلافة منصباً وراثياً على يد معاوية بن أبي سفيان
يبقى الصراع السياسي بين التيارين الشوري والديمقراطي العقبة الرئيسة في وجه الاختيار الحرّ، على خلفية حملات التشويش والتشويه، وادعاء كلّ تيار امتلاكه الحقيقة، والوصفة السحرية للخلاص الأكيد، وهو موقف منطقي، لكنّه ليس موضوعياً لأن كلا التيارين، قيادة وأطراً، تبنيا سياسة المفاصلة، وعدم بذل جهد للتعرّف إلى فكر وخطط وبرامج التيار الآخر، ولمعرفة ما يمكن أن تقدّمه هذه الخطط لصالح المجتمع، فنادراً ما نجد هذا التفاعل والتثاقف والبحث عن مشتركات وتقاطعات، تبرّر التعاون والتنسيق وتشكيل حالة غير نمطية. فأتباع التيار الشوري رفضوا الديمقراطية بذريعة أنها تمنح البشر حقّ التشريع وهو ما يتعارض مع أن الله هو المشرّع في الإسلام، واعتبروها تجديفاً وكفراً، وهذا ليس دقيقا لأن المشرعين في مجلس الشورى سيُعملون عقولهم في وضع تشريعات، ما يجعلها من وضع بشر، حتى ولو استظّلت بالشريعة، لأنها في النهاية ليست الشريعة، بل اجتهادات بشر، وهو ذاته يحصل في البرلمانات الديمقراطية، ناهيك عن أن الهدي الإلهي ترك قضايا كثيرة من دون تحديد موقف أو خيار، ما جعلها مادّة لاجتهاد البشر، فقهاء ومفكّرون ودارسون يجتهدون في فهمها ووضعها على سلّم الضرورة والأهمية والأولوية، ويبحثون عن سبل حلّها، وما يتوقّع من حلّها من نتائج وتبعات. الديمقراطية، فلسفةً ونظام حكم، تتقاطع مع الهدي الإلهي في أنها وسيلة لخدمة البشر والإعلاء من مكانتهم، وفي جعلهم يشعرون بالرضا عبر المشاركة فيتحقّق الاستقرار، وفي تنظيم وتقنين التدافع البشري فيسود السلم الأهلي. هذا من دون أن نتجاهل واقع المسلمين وخروجهم منذ قرون من ساحة الإبداع والفعل المثمر، وما كان سيحصل لهم ولمؤسّساتهم ومجتمعاتهم لو أن الشورى طبّقت في حياتهم طوال هذه القرون. اتباع التيار الديمقراطي وقعواً أيضاً في موقف الرفض العدمي للشورى، واعتبروها نمطاً تاريخياً منتهي الصلاحية، لأنها لا تلبّي توجّهات العصر في الإعلاء من حرية الفرد بشكل خاص، بل هي أقرب إلى تقييده من منحه حرّياته.
خاتمة
نحن أمام معضلة كبيرة، ضرورة الخروج من حالة الجمود والركاكة، لإنقاذ مجتمعنا وفتح الطريق للأجيال القادمة للنمو والتقدم، من جهة، وعدم وجود إجماع وطني على خيار محدّد لتجاوز الواقع الصعب والمستقبل الغامض، من جهة ثانية. وليس أمامنا إلا الانفتاح والانخراط في حوار جاد وعملي لتجسير الهوة ورأب الصدع، والبحث عن قواسم مشتركة من دون التوقف عند التسميات والتوصيفات المجرّدة، فالمهم هو خدمة الإنسان الذي نزلت الأديان (كما الديمقراطية) لخدمته. الحوار والاتفاق خيار وحيد، وإلا فالثقب الأسود في انتظار الجميع.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News