قدّمت الجلسات الثلاث لمجلس النوّاب يومَي الثلاثاء والأربعاء نموذجاً للشعار الذي يحتاج إليه الانقسام الدائر حول سلاح “الحزب”. ليس في البرلمان اليوم موالاة ومعارضة، ولا طراز مشابه لِما عُرف بقوى 8 آذار و14 آذار، ولا صراع على مشروعين عقائديَّين. كلّ ما رافق الجلسات الثلاث أخيراً ليس إلّا صراعاً على جزء من كلٍّ ينحصر في مسألة واحدة هي سلاح “الحزب”: مَن يخاف منه، ومَن يخاف عليه.
مع أنّ موعد الانتخابات النيابية العامّة لا يزال مبكراً جدّاً، بعد عشرة أشهر، بيد أنّ الكتل النيابية باشرت خوضها في جلسة مناقشة الحكومة قبل يومين، بعنوان معلوم هو مصير سلاح “الحزب”. طابع العجلة هذا ليس إلّا من باب الاحتراز والتحوّط مع علم الكتل أن لا المجتمع الدولي ولا الأميركيون والإسرائيليون سينتظرون إبقاء هذا الملفّ معلّقاً إلى موعد الانتخابات النيابية المقبلة، المعوَّل على ما يمكن أن ينجم عنها كي يكون مطلع عهد الرئيس جوزف عون.
قدّمت الجلسات الثلاث لمجلس النوّاب يومَي الثلاثاء والأربعاء نموذجاً للشعار الذي يحتاج إليه الانقسام الدائر حول سلاح “الحزب”
حلّ سياسيّ لا عسكريّ
حيال عجلة الكتل المتمسّكة بالسلاح وتلك المطالِبة بنزعه، وقد تبدو متسرّعة في التقدير والتوقّع، اختار المسؤولون اللبنانيون التعامل مع الجواب الأميركي على الردّ اللبناني على المطالب الأميركية بكثير من التأنّي لأسباب تُعزى إلى:
– أوّلها، يقينهم من أنّ التوصّل إلى تخلّي “الحزب” عن سلاحه يتمّ بحلّ سياسي لا بحلّ عسكري. يتقاطع رئيس الجمهورية وقائد الجيش على هذا الموقف، وكلاهما قبل سواهما وربّما دون سواهما المعنيّان الأوّلان بالقرار. الأوّل لأنّه تعهّد منذ ما قبل انتخابه الوصول إلى نزع سلاح “الحزب”، وقد عبَّر عنه خطاب القسم بعبارة ملطّفة هي “حصريّة السلاح في يد الدولة”، دونما أن يكون رئيس الحكومة نوّاف سلام وصل إلى السراي بتعهّد مماثل، إلّا أنّه تبنّاه في البيان الوزاري انطلاقاً من التزام مضمون خطاب القسم. الثاني لأنّه المعنيّ بتنفيذ أيّ أمر إجرائي يتّصل بوضع اليد على سلاح “الحزب” ما إن أنجز كلّ ما يترتّب على الجيش القيام به جنوب نهر الليطاني.
يصعب في ظلّ توازن القوى الداخلي، في الحكم اللبناني وفي الشارع، الوصول إلى تخلّي “الحزب” عن سلاحه طوعاً
في جلسة مجلس الوزراء قبل أكثر من شهر ونصف شهر، كشف له العماد رودولف هيكل ما أتمّه الجيش جنوب نهر الليطاني، وقدّم جردة بما وضع يده عليه من أسلحة في سياق ترتيبات تنفيذ القرار 1701. طلب منه وزراء إعلان ذلك أمام الرأي العام فرفض، مفضّلاً التحفّظ تفادياً لانعكاس هذه المعطيات سلباً على الجيش وإضعاف المفاوض اللبناني، و”الحزب” بالذات، في سياق إصرارهما على انسحاب إسرائيل من النقاط الخمس المحتلّة. ما قاله للوزراء: “مَن يقتضي الحال أن يعرف هو الأميركي والفرنسي ولجنة الإشراف الأمنيّة ورعاة القرار 1701، وهم يعرفون ما جرى جنوب نهر الليطاني”.
– ثانيها، على الرغم من التمسّك بالحلّ السلميّ لبلوغ حصريّة السلاح في يد الدولة، إلّا أنّ دونه شروطاً يضعها “الحزب” يتقاطع مع الدولة اللبنانية على معظمها، تفرض أولويّات متدرّجة قبل الوصول إلى آخر البنود، وهو سلاحه. تبدأ بالانسحاب الإسرائيلي من النقاط الخمس وتمرّ بتحرير الأسرى ووقف الانتهاكات الإسرائيلية وصولاً إلى تثبيت الحدود. ذاك ما طرح أخيراً مفردة “التلازم” إلى جانب “التزامن”، في مناقشة الآليّة المفترضة لمراحل تخلّيه عن سلاحه في مقابل ما على إسرائيل مباشرته. يجتمع الموقفان الأميركي والإسرائيلي على التخلّص من الخطر الذي يمثّله احتفاظ “الحزب” بسلاحه وإن أصبح بعيداً عن خطوط التماسّ مع الدولة العبرية. إلّا أنّ الغموض الذي يحوط بما يملك أو لا يزال يحتفظ به وبقي من أسلحة استراتيجيّة كصواريخ بعيدة المدى ومسيّرات تُصنّع في لبنان، يحيل جمع هذا السلاح وإتلافه أولويّة لا يتقدّم عليها شيء آخر، لا تزامناً ولا تلازماً.
مهمّة المقاومة انتهت
– ثالثها، يصعب في ظلّ توازن القوى الداخلي، في الحكم اللبناني وفي الشارع، الوصول إلى تخلّي “الحزب” عن سلاحه طوعاً. ما دام مُسلّماً بأنّ الدولة اللبنانية تريد محاورته ومراعاته وتسليمه إيّاه بالحسنى، وباقتناعه أوّلاً بفقدان جدواه وانتهاء وظيفته، وهو ما لا يسعه لأسباب عقائدية ودينية وسياسية الانصياع له، فذلك يعني أنّ الوقت مفتوح أمامه للمضيّ في عرقلة الوصول إلى هذا الهدف، وإن تواصلت الهجمات والاعتداءات الإسرائيلية.
قبل وصول قادتها إلى خيارهم تسليم السلاح، كانت أمثولة 13 تشرين الأوّل 1990 إيذاناً بفرض تطبيق اتّفاق الطائف وإن بالقوّة
لا تختلف تجربة “الحزب”، بل يجب أن لا تختلف مع تجربتين سابقتين مماثلتين، لكلّ منهما درسُها، مع الأخذ في الاعتبار أنّه لم يسبق لتنظيم لبناني أن احتفظ على مرّ تاريخ المحن الوطنية بسلاحه قرابة أربعة عقود. أولى التجربتين “ثورة 1958” عندما تخلّى حزب الكتائب وحلفاؤه والمقاومة الشعبية وحلفاؤها عن سلاحهم وارتضوا الانخراط طوعاً في دولة وثقوا برئيسها المنتخَب للتوّ، وهو الرئيس فؤاد شهاب، وائتمروا به. الثانية بدأت عام 1991 واستُكملت عام 1992 مع حكومتَيْ الرئيسين عمر كرامي ورشيد الصلح على التوالي بتخلّي الميليشيات القويّة الثلاث آنذاك (الحزب التقدّمي الاشتراكي وحركة أمل والقوّات اللبنانية) عن سلاحها، بإعادته إلى سوريا أو تسليمه إلى الجيش أو بيعه.
قبل وصول قادتها إلى خيارهم تسليم السلاح، كانت أمثولة 13 تشرين الأوّل 1990 إيذاناً بفرض تطبيق اتّفاق الطائف وإن بالقوّة. امتثل وقتذاك نبيه برّي ووليد جنبلاط للتسوية الوطنية وانخرطا فيها، بينما تردّد سمير جعجع حيالها وتحفّظ. في نهاية المطاف الثلاثة تخلّوا عن سلاحهم الثقيل الذي أداروا من خلاله حرب اللبنانيين على اللبنانيين، إلّا أنّ الثمار والمكافأة السياسية تباينت للأوّلَيْن عن ثالثهما. عاند فسُجن.
إقرأ أيضاً:
أوجب فعل الإرغام على التخلّي عن السلاح موازين قوى جديدة آنذاك أتاحت لمَن فهم مغازيها ودلالاتها الإقليمية والدولية أن يستدركها بالتراجع والقبول على مضض. من خلال ما عُدَّ “وهرة” القوّات السورية وعديدها أمكن الجيش اللبناني جمع السلاح. لم يكن ليتاح الحلّ السلميّ بتسليمه من دون توازن قوى غلّب قوّة الدولة اللبنانية الجديدة آنذاك على الميليشيات.
ذلك ما لا يزال يفتقر إليه العهد الحالي للوصول إلى الحلّ السياسي لكن بموازين قوى مختلفة، تحمل “الحزب” على الاقتناع قبل الارتضاء بأنّ مهمّتَيْ المقاومة والميليشيا انتهتا أخيراً وإلى الأبد.