–
لا شيء يُمزق النسيج الوطني السوري مثل دماء السوريين التي تُسال على أيدي السوريين. ولم تشهد دولة خرجت من النزاع والصراع أن حصلت على الاستقرار السريع، حتّى تنالها سورية التي أساساً فتّت نظام حزب البعث أركانها وكيانها وبُنيتها الصّلبة. وبغضّ النظر عن أيّ الروايات التي تسبّبت بكل هذا الألم والدماء هي الأصحّ، فإنّ بقاء الدولة السورية الجديدة، من دون تعريف واضح وصريح، يُخشى أن يقود إلى مزيد من هذه المشكلات والمواجهات التي لن تمنح السوريين، المبتلين بلوثة حكم البعث نصف قرن، استقراراً ولن تؤمن لهم سوى مزيد من الدمار والخراب. ومع الاهتمام بالأصوات التي تتعالى عن الأسباب العميقة والأساسية لتكرار الاشتباكات إلى غياب سؤال الهويّة عن مستقبل البلاد، يُخشى أن يكون ذلك مُمهداً لسلوكيات مُشابهة في أكثر من منطقة جغرافية سورية، وسيبقى الأكثر رواجاً وتشكيلاً للمخاطر المستقبلية.
ولهذا؛ لا يُمكن ولا يجوز النظر إلى ما يحصل على أنها حالات فردية، أو توترات صغيرة ستنتهي بمجرد انتهاء الاشتباكات، بل الاستمرارية الكبرى هي فيما بعد ذلك الانتهاء، فالجوانب النفسية والعاطفية المُحركة للسلوكيات ستبقى ناراً تحت الرماد، ما لم تُعالج التداعيات فوراً، وهي المعالجات التي لا تجري بخطب سياسية أو سرديات شفهية، بل تحتاج حلولاً عميقة ترتبط بمسبّبات الأزمات والاشتباكات، خصوصاً أنّ الاشتباكات في السويداء أخيراً حصيلة تراكمات وتوترات سابقة، إضافة إلى الفراغ المؤسّساتي الحكومي والأمني والعسكري، والتي هي من نتائج غياب سؤالَي الدولة والهويّة.
وإذا كنّا إزاء مشهد عنفي واضح في السويداء، وقبلها في أحياء وجود الدروز في دمشق، وقبلها في الساحل، ومع توسيع مخاوف المجتمعات المحلية في شمال شرق سورية، فإن أهم سؤال يجب البحث فيه كيفية تحويل الأمن العام إلى وعاء جامع حامٍ تُشبك فيه خيوط الود والالتزام والانسجام مع المجتمعات المحلية. هذا التحوّل المفقود حالياً لا يُمكن ولا يجوز مُعالجته عبر الحلول الأمنية. ليس في السويداء فحسب، بل إنّ الغالبية العظمى من المشكلات والتوترات والصراعات التي تظهر في سورية ما بعد النزاع، تكمن حلولها في الجانب السياسي وليس الأمني.
لا شيء يحصل مصادفة، بل ثمّة رسائل سياسية وهويّاتية ونفسية خلف كُل تلك النزاعات
وبإحاطة سريعة لسلسلة الاشتباكات والمواجهات نجد أنّه في 1 مارس/ آذار الماضي (2025)، اندلعت اشتباكات مسلحة في مدينة جرمانا بين عناصر الأمن العام ومجموعات درزية مُسلّحة، في المحصّلة قُتل شخص وأصيب تسعة آخرون. مع انتشار كثيف للفصائل المسلحة المحلية الدرزية في المدينة، وجاء التصعيد على خلفية مقتل عنصر من الأمن العام عند أحد الحواجز التي وضعتها تلك الفصائل. وفي 26 من الشهر نفسه، اندلعت اشتباكاتٌ بين مجموعات من محافظة دير الزور ومجموعات مسلحة من الطائفة الدرزية في مدينة صحنايا جنوب دمشق، إثر خلاف تحول إلى إطلاق نار، خلف قتلى وجرحى من الجانبين، وتوقفت المواجهات بعد تدخل الأمن العام.
وفي 8 مايو/ أيار، شهدت صحنايا وجرمانا والأشرفية أشد تلك الاشتباكات، وأكثرها عنفاً، إذ سعت أرتال عسكرية شعبية من السويداء للمشاركة فيها، وتدخل شيوخ العقل والنخب السياسية الحاكمة من دمشق ومحافظو السويداء وريف دمشق والقنيطرة. وتُعد جرمانا، وعلى نحوٍ خاص صحنايا، ذات تنوّع طائفي مختلط، إذ تضم الدروز والمسيحيين وأبناء من حوران، إضافة إلى بعض أبناء محافظة دير الزور. وحالياً، عاد مشهد المواجهات والاشتباكات إلى الظهور في السويداء، مع إضافة تحرّك سلاح الجو الإسرائيلي وقصفه دبابات سورية، بزعم أنها تجاوزت ما وصفه مصدر أمني الخط الذي حدّدته تل أبيب داخل سورية، فهاجمتها الطائرات الإسرائيلية. وتفضح هذه الرواية تحديداً حجم الحاجة الماسّة لِلَمّ شمل السوريين على قرار ورأيٍّ واحد، إذ لا مُنتصر في المواجهات السورية السورية غير إسرائيل.
تعتقد الأقليات القومية والدينية أنّ ما يجري في سورية حالياً إعادة طرحٍ لمفهوم الهويّة الأحادية للهيمنة
لا شيء يحصل مصادفة، بل ثمّة رسائل سياسية وهويّاتية ونفسية خلف كُل تلك النزاعات. والسبب غياب مفهوم الدولة وعدّم القيام بواجباتها. والواضح من سياق تتالي الأحداث بين الدروز والإدارة السورية أنّ خلفيات متقاطعة ومشتركة تدفع إلى استمرار الأزمات، من أهمها الاختلافات السياسية والعسكرية، وتباين مواقف المجموعات الدرزية تجاه الإدارة الجديدة في دمشق، والوجود الأمني لغير السوريين، إضافة إلى تسبّب الإعلان الدستوري بكتلة ضخمة من المشكلات والتوترات بين مختلف الجماعات السياسية والطوائف الدينية، بسبب غياب مفهوم الاعتراف الإثني والسياسي بهم وبخصوصياتهم. خاصّة أنّ المركز لم يُعطِ إشارات طمأنة للأقليات والمناطق ذات التنوع الديني. وعمَّقت الشرخ أكثر التحدّياتُ الأمنية والاقتصادية المتدهورة. ولعلّ أبرز سؤال يتبلور في تحليل ما يحصل، لماذا لا يكون الحوار والتواصل الركيزة الأساسية لحل تلك المشكلات عوضاً عن لغة السلاح؟ أو ما يعرف في علم الاجتماع السياسي بالصراع الهوياتي، وهو قائم على شعور التمييز والتهميش لهم من الدولة وأذرعها الأمنية، ويتطور الأمر إلى النظر إلى بعض الممارسات الأمنية أنها موجّهة ضد “الهويّة الجماعية” لتلك الفئة، لا ضد أفراد بممارسات خارجة عن القانون.
تُشكل حقوق الهويّة بالنسبة للطوائف إطاراً وجودياً وسياسياً وأمنياً، ومصدرَ الشعور بالأمان، وبمجرّد ولادة شعور أن الدولة تتعامل معهم بوصفهم مشتبهاً فيهم يُصبح الاشتباك وسيلة للرد على تلك التّهم والإقصاء. وضمن السياق الهويّاتي، يقود العمق النفسي أهالي السويداء، وكغيرهم على أيّ حال، وبسبب غياب المشروع الوطني الجامع، وغياب العقد الاجتماعي والعدالة الانتقالية، يقود للقول “أنا هنا موجود، بصرخة وجودية، أنا درزي ولا يُمكن تجاوز هويّتي”، أيّ أن الاشتباكات تُصبح عملاً دفاعياً عن الهويّة. وأمام سيولة المشهدين، النفسي والفلسفي، لقضية الهويّة، والضغط النفسي والسلوك الرافض آلية التعامل مع الجماعات التي تشعر بالغُبن، تدفع بهم أحياناً إلى اعتقاد أن تمركز عنصر أمني بزّي معين في حيّ أو منطقة ما رُبما يتطور الأمر لاعتباره “تهديداً لهويّة جماعية”، حتّى لو لم يكن هناك أيَّ تهديد مباشر. وهو ما يمنح الاشتباكات وظيفة أخرى، هي التفاوض للتعبير عن المطالب السياسية والاجتماعية، وما لها من أدوار في إعادة تشكيل التوازنات السياسية في سورية.
ما حصل في السويداء انتحار جماعي، سياسي وعسكري لكل سورية
تعتقد الأقليات القومية والدينية أنّ ما يجري في سورية حالياً إعادة طرحٍ لمفهوم الهويّة الأحادية للهيمنة. ولكن في قالب جديد، وهو الهيمنة الناعمة، ومحاولة التغلغل في البنى الذهنية والمعرفية للضحايا، والسعي إلى إقناعهم بأن ما يجري مؤقت، وغير دائم، وأنّهم “جزء من النسيج الوطني السوري”. وفي الواقع، يجري الحفاظ على رِتْم (إيقاع) الهويّة المراد لها بالسيطرة، عبر مؤسّسات التربية والتعليم والإعلام والأمن، من خلال تكريس تراتبية اجتماعية وثقافية وفرض لغة وقومية وطائفة وديانة مُحدّدة. وهذا النوع من العنف لا يُنفّذ من الأعلى إلى الأسفل فحسب، بل إنه يسعى إلى إعادة إنتاج وعي جمعي جديد في اللاوعي الشعبي، سواء لدى المعترضين والضحايا أو لدى الفئة المسيطرة؛ رغبة من السلطة في إعادة تشكيلها الهويّات وفقاً لما ترغب به. ويقابله وعي فردي وجمعي بالهويّة الفرعية لتتمسّك بها الجماعات التي تشعر بالخطر، وتصرّ على ربط الاستقرار بالاعتراف بهويّتها. أو أن أزمة الهويّة ستستمر في شكل مقاومة رمزية أو عنفية، وتحرّك الهويات المُهدّدة جماعاتها لتأييد العنف الرمزي ورفض الإقصاء والإلغاء الاجتماعي والسياسي والديني.
ما حصل في مدن الدروز وأحيائهم، وما حصل في الساحل، ومن يدري ربما يحصل في أماكن أخرى أيضاً، يكشف عن عمق التوتر بين السلطة والمكونات، بين الهيمنة والمقاومة، ويدفع إلى القول هل السوريون على ضفتَين متصارعتَين متقابلتَين أم في ضفة واحدة وركاب سفينة واحدة. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل بشأن البحث عن ديناميكيات جديدة للتعامل والحوار، عوضاً عن التسلط المعنوي أو المادي أو مفهوم السيطرة والتسيُّد، والقول إنّ لغة السلاح والدم لن تقود إلى أيّ نتائج مُرضية لأحد.
ما حصل في السويداء انتحار جماعي، سياسي وعسكري لكل سورية. الجميع مُلزم بدعم صرخات الكرامة، وتحريم هدر دماء السوريين. لا يخدم الاستنزاف سوى من يعمل على تهميش السويداء واستمرار تدفق الدم السوري، وفي وقتٍ تُعاد صياغة الخرائط، فإنّ السويداء تُدفع إلى الهامش والمواجهة والحرب الخاسرة. وفي النهاية، الواعظ النفسي وتراكم الحزن لن يُقدم لمستقبل البلاد أيّ استقرار وتنمية مستدامة.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News