منذ وصول الرئيس أحمد الشرع إلى السلطة في سوريا أواخر عام 2024، دخلت البلاد ما يُسمّى بالمرحلة الانتقالية، التي حُددت مدّتها بخمس سنوات. خمس سنوات قد تبدو في ظاهرها بداية لإعادة ترتيب ما تهدّم، لكن الحقيقة أن شكل الحكم الذي بدأ يتكرّس لا يوحي بأنّ البلاد في حالة إعادة بناء سياسية، بل في حالة إعادة تموضع للسلطة نفسها، لكن بوجه جديد، وأدوات مألوفة.
الشرع، الآتي من خلفية عسكرية فصائلية مثيرة للجدل، تخلّى عن لباسه الجهادي وخطابه المتشدد، وظهر كرئيس مدني متّزن، يتحدث بلغة فيها واقعية وشيء من المرونة، ونال تأييداً شعبياً ملموساً، أو على الأقل، قبولاً واسعاً نابعاً من الحاجة إلى الاستقرار. كثير من السوريين يرون فيه شخصية عملية، أقرب لفكرة الدولة من المعارضة التقليدية، وأكثر حيوية من النظام المخلوع، الذي سقط بتراكم طويل من الفشل والفساد والإجرام. لكن وسط هذا القبول، بقيت أسئلة أساسية معلّقة: أين هو الدستور؟ ما الإطار القانوني الذي تُبنى عليه الدولة؟ ولماذا تُتخذ قرارات مفصلية، تؤثر على مصير مؤسسات وقطاعات كاملة، بشكل فردي من الرئاسة، وكأنّ البلاد لم تمر بثورة، ولا بانهيار، ولا بوعد بتغيير جذري؟ فمنذ تولّيه، أصدر أحمد الشرع سلسلة من القرارات التي حملت طابعاً إدارياً تنموياً، لكن آلية إصدارها وتركيبة المؤسسات الناتجة عنها، عكست استمرار النمط القديم في الحكم، وإن بلغة مختلفة. أبرز هذه الخطوات كان إصدار المرسوم رقم 112 لعام 2025، الذي أنشأ بموجبه «صندوق التنمية»، وهو كيان اقتصادي ضخم يهدف إلى دعم مشاريع البنية التحتية. لكن الصندوق هذا، كما في كل مؤسسة مفصلية أنشأها الشرع، يرتبط مباشرة برئاسة الجمهورية، وليس بأي وزارة أو جهة رقابية، المدير العام يُعيّن بمرسوم، مجلس الإدارة يُشكّل من مقر الرئاسة، والمشاريع تُقرّ من فوق، ما بدا أنه مؤسسة مستقلة، هو في الواقع نسخة جديدة من إدارة مركزية صارمة، تُمسك بخيوط كل القطاعات الحساسة تحت يد الرئيس. ولم يتوقف الأمر عند الصندوق. فقبلها، صدرت مراسيم أخرى تنص على:
*إعادة هيكلة «هيئة الرقابة المالية»، وربطها مباشرة بالقصر.
*تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية، لا تخضع لمجلس الشعب، بل تتبع شخصياً للمكتب التنفيذي للرئيس.
وتوسّعت هذه المركزية حتى شملت قطاع الإعلام، حيث جرى الحديث عن تأسيس منصات جديدة مستقلة شكلاً، لكنها ترتبط فعلياً برئاسة الجمهورية. وفي كل هذه المراسيم، لم يظهر أي دور لمؤسسات تشريعية أو رقابية حقيقية. السلطة التنفيذية والتشريعية تُختزل فعلياً في مكتب الرئيس، حتى إن كانت اللغة أكثر نعومة، والإخراج أقل خشونة من عهد الأسد الابن. هنا تحديداً تبرز المقارنة التي لا مفر منها. في عهد حافظ الأسد، كانت الدولة تُدار عبر المركز الأمني، والمراسيم الرئاسية تُبنى على «حالة طوارئ» ولم تتوقف لعقود. وفي عهد بشار الأسد، جرت محاولة لتغليف المركزية بالدستور، عبر انتخابات شكلية، ومؤسسات فارغة من السلطة الحقيقية. أما في عهد الشرع، فالمركزية عادت بشكل مباشر، لكن دون قمع صارخ، ولا شعارات كبيرة. الشرع لم يحتج إلى حالة طوارئ، ولا إلى مسرحيات ديمقراطية. هو ببساطة أعاد تشكيل السلطة حول شخصه، ولكن ضمن تصور واقعي، يقول للناس: «أنا مسؤول، أتحمل، وأُنجز.. فدعوني أقرر»، وفي بلد أنهكته الحرب والانقسامات، تبدو هذه المعادلة مغرية. ولهذا ليس غريباً أن يحظى الشرع بشعبية حقيقية، أو على الأقل، بتأييد صامت من شريحة واسعة من السوريين. لكن التحدّي هنا لا يتعلق بالشعبية، بل ببنية الدولة.
أي انتقال سياسي لا يمكن أن يُبنى على شخص واحد، مهما كان مقبولا. السلطة التي لا يُقيّدها دستور واضح، ولا تُراقَب بمؤسسات فعلية، تظل عرضة لإعادة إنتاج الأزمات نفسها التي فجّرت البلد في الأصل. والأخطر أن غياب الدستور حتى الآن بعد مرور أكثر من نصف عام على المرحلة الانتقالية، يجعل من كل القرارات الصادرة أفعالاً فردية ذات طابع رئاسي مطلق. لا يوجد تعريف دقيق لصلاحيات الرئيس المؤقت. ولا سقف زمني يُلزم السلطة بإنتاج قانون أساسي جديد. فما الذي يضمن ألّا تتحوّل «المرحلة الانتقالية» إلى حالة دائمة؟ ومن يضمن ألّا يكون أحمد الشرع، مثل غيره من القادة الذين بدأوا بخطاب التغيير، ثم استقروا في كراسي الحكم لعقود؟ في المحصلة، الثورة السورية حاولت، لعقد كامل، إسقاط نظام مبني على شخص. لكنها لم تصل إلى القصر، الذي وصل هو رجل خرج من أطراف الصراع، تفوّق على النظام في لحظة انهياره، وملأ الفراغ، دون أن يتبنى مشروع الثورة، أو يتنازل عن مركزية الحكم. فهل انتصرت الثورة؟ أم أن أحمد الشرع هو من انتصر، حين أخرج الأسد من المشهد، وأعاد صياغة النظام، دون أن يهدم بنيانه؟ هل نحن أمام تحول حقيقي؟ أم استمرارية ملساء، تجيد استخدام لغة التغيير دون أن تخوض فيه فعلياً؟ من المبكر الحُكم لا شك.
لكن هل تغيّرت البلاد فعلاً، أم تغيّر شكل السلطة فقط؟ هل دخلنا مرحلة مختلفة، أم مجرد نسخة محسّنة من الماضي؟ وهل يكفي أن يكون الرئيس محبوباً أو قوياً، إذا كانت الدولة ما زالت بحاجة لرئيس مطلق؟ أم أن الأمل الحقيقي سيبدأ فقط حين لا نعود نربط مصير البلاد بشخص، أياً كان اسمه؟
صحافي سوري