حين تسقط السرديات الكبرى، ويتبخر الإيمان بالمبادئ، وتتهاوى المؤسسات، وتفقد الهوية تماسكها، والانتماءات يقينها، يصبح الفرد وحيدًا أمام الهاوية، وتنفتح الهوة النفسية الكبرى التي تُفضي إلى ولادة الجمهرة أو الحشد (mass formation): تلك الظاهرة التي تتحوّل فيها الذات من كينونة حرة إلى ذرة ذائبة في كلّ جمعيّ، متوهَّم، وموجّه، ويصبح الانتماء أهم من الحقيقة، والجماعة أهم من الفرد، وتضيق فيه المساحات الآمنة للذات. فالجمهرة تمنح المرء وهم الاستقرار، مقابل محو فردانيته. الجمهرة هنا لا تُعرِّف نفسها بما هي عليه، بل بما ليست عليه. تعتمد على التضاد، وتستمد معناها من وجود آخر تهدده أو يهددها. وما يُهددها يحددها، وما تُقصيه يمنحها ملامحها.
ولذلك، فالجمهرة، أو الحشد، ليست حالة سطحية من التجمع البشري، بل لحظة انهيار داخلي للأفراد. يدخل الإنسان في حالة هشاشة، لا يطلب فيها الحقيقة، لا يسعى فيها للفهم، بل للانتماء. هكذا، تُصبح أي رواية شمولية، مهما كانت فجّة، قادرة على أن تسدّ الفجوة. فالفرد الممزق بين قلقه الشخصي وعجزه عن التأثير، يسلّم وعيه لجماعة يبدو صوتها صلبًا ويتحوّل إلى “صدى جمعي”، يُكرر ما تقوله الجماعة، لا لأنه مقتنع، بل لأنه مذعور. وتدريجيًا، يصبح “التكرار” هو مصدر الحقيقة. كما يكتب ❞ ماتياس دسميت ❝ في كتابه ❞سيكولوجية التوتاليتارية❝: “الإنسان المندمج في جمهرة لا يعود يرى العالم كما هو، بل كما يُقدَّم له عبر خطاب مسيطر. الحقيقة لم تعد ما يُدرَك، بل ما يُكرَّر.” وتظهر خطورة الجمهرة بشكل مضاعف عندما تلبس قناع الحق، أو الوطنية، أو الدين، أو المقاومة، أو حتى الكرامة، فنجد فيها من يمجّد النظام باسم الحفاظ على الدولة، ومن يحشد لطائفته باسم التهميش. في كلا الحالين، القاسم المشترك هو هذا الذوبان النفسي في جماعةٍ تملي على الفرد ما يجب أن يشعر به، وما يخاف منه، وما يكرهه.
يكتب دسميت: “حين تتشكّل الجمهرة، تصبح الرواية المشتركة أكثر أهمية من الواقع، والامتثال أهم من الفهم.” وما يضمن استمرارها هو ما يسميه دسميت “إزاحة العدوان”: أي توجيه القلق الوجودي نحو هدف خارجي، يحمل صورة الشر المطلق. ولا يُنظر في هذه الحالة إلى المعارضين كخصوم، بل كخونة، كأعداء للهوية الجمعية، كأجساد غريبة يجب التخلص منها ويصبح عدو الأمس صديقاً إذا تناغم مع الجمهرة. ويسود المنطق الثنائي: “نحن” مقابل “هم”. وكل “هم” هو خطر، وكل اختلاف خيانة، وكل محاولة نقد هي تمزيق للحصن من الداخل.
حين تتشكّل الجمهرة، تصبح الرواية المشتركة أكثر أهمية من الواقع، والامتثال أهم من الفهم.” وما يضمن استمرارها هو ما يسميه دسميت “إزاحة العدوان”: أي توجيه القلق الوجودي نحو هدف خارجي، يحمل صورة الشر المطلق. ولا يُنظر في هذه الحالة إلى المعارضين كخصوم، بل كخونة، كأعداء للهوية الجمعية، كأجساد غريبة يجب التخلص منها ويصبح عدو الأمس صديقاً إذا تناغم مع الجمهرة.
هذه الظاهرة تصبح أشد فتكاً في المجتمعات المأزومة، أو في المراحل الانتقالية، حيث تصدّعت الهويات الوطنية، وغابت المرجعيات المشتركة، وانسحبت الدولة من دورها لأن تكون جامعاً للشعب تحت راية المواطنة المتساوية، وتحوّلت إلى “جمهرة”، ومن كيان فوق الطوائف إلى موزّع رعب بينها، ومن ضامن للحقوق إلى راعٍ للشك المتبادل.
في ظل هذا التواطؤ اللاواعي أو الواعي، يصبح ابن الجمهرة صورة عن موالي النظام، ولكن بلون مختلف. كلاهما أسير جمهرته، ويطلب سلطة تُمثّله وتُدافع عن هويته المفترضة وهنا، تموت السياسة، ويولد الاستقطاب الهوياتي، الذي لا يحاور، بل يحرّض.
ولذلك يمكن القول، لا تبدأ الأنظمة التوتاليتارية من الدبابات، ولا من الانقلابات السياسية، بل من شيء أكثر خفاءً وغموضاً: حالة نفسية جماعية. تفرضها حالة الجمهرة، ذلك التحوّل العميق الذي يصيب المجتمعات حين يتحوّل الأفراد إلى جمهور نفسي واحد، يتكلم لغة واحدة، ويعتقد بعقيدة واحدة، ويرى العالم عبر نافذة ضيقة واحدة. مما يؤسس للتوليتارية أوللدكتاتورية، لأن التوتاليتارية لا تُبنى من فوق فقط، بل تُطلب من الأسفل. إنها استجابة لمنظومة نفسية جماعية، أكثر من كونها مؤامرة سلطوية من حفنة حكام طغاة. هنا، تظهر السلطة التوتاليتارية كاستجابة للطلب الجماهيري. فالحشد هو الذي يخلق النظام، لا النظام الذي يخلق الحشد. الأنظمة التوتاليتارية لا تحتاج إلى مؤسسات أمنية ضخمة بقدر ما تحتاج إلى جمهور مذعن، قنوع، يُعيد إنتاج خطاب السلطة ويُعاقب الخارجين عن صفّ الجماعة.
وحتى الدكتاتورية، ليست كما نتوهم غالباً، مجرّد نظام سياسي يُفرض من الأعلى على شعب أعزل. إنها، في حالات كثيرة، رغبة جماعية مقنّعة، محمولة على الجمهرة، تتسلل إلى الوجدان الشعبي تحت ستار الحاجة إلى “الأمان”، “الاستقرار”، “الوحدة”، و” القيادة القوية”.
والمشكلة هنا أن الإعلام يسهم في خلق الجمهرة ويغذيها، وتصب وسائل التواصل الاجتماعي الزيت على النار، ففي الأزمنة العادية والدول المكتملة، يكون الإعلام مرآةً عاكسة، قَلِقة، مشوشة أحياناً، لكنها تظل مرآةً للواقع وتعدديته. أما في زمن الجمهرة، فالإعلام يصبح مرآةً مقعّرة: لا تعكس الواقع، بل تُعيد تشكيله، تُضخّمه، تُسطّحه، ثم تُقطّعه على مقاس الرغبات اللاواعية للجمهور. في الجمهرة لا يعود الإعلام ناقلًا للمعلومة، بل صانعًا للانفعال. لا يعود محلّلاً، بل مُهيّجًا. لا يُسائل السلطة أو المجتمع، بل يرسّخ سردياتهما، ويُغذّي الحشود بما يُبقيها متماسكةً ومتأهبة. فإعلامي الجمهرة، سواء أكان مع مشروع الدولة أو مع الطائفة، لا يُفكّر، بل يُؤدي طقس الانتماء. لا يُخبر، بل يُحرّض. لا ينقل الواقع، بل يصوغه بما يتناسب مع الرواية الجماعية. دسميت يوضح هذه العلاقة بقوله: “في جمهرة نشطة، لا يعود الخطاب وسيلة للتفكير، بل يصبح طقسًا شعائريًا يثبّت الانتماء. من يشكّك في الرواية، يُقصى كهرطوقي.” فكل خبر، كل فيديو، كل منشور، لا يُقدَّم لشرح الواقع، بل لإعادة تكريس البنية الانفعالية للحشد: الخوف، الكراهية، الشعور بالتميّز، والعطش للانتقام. والإعلاميون وصنّاع المحتوى في هذا السياق لا ينقلون الأخبار، بل يصوغون خطاب الهوية والخوف ويُعاد إنتاج ذات اللغة: نحن مقابل هم، الخير مقابل الشر، الحق مقابل الباطل.
لكن وسط هذه الضوضاء، والصراخ من كلا الجمهرتين يظهر صوت يتحدث بلغة لا مكان لها في الجمهرة: لغة الشك، النقد، الحذر من التعميم، والانحياز للفرد على حساب الحشد. قد يكون هذا الصوت غريبًا، منبوذًا، مُتَّهَمًا باللاانتماء ويُواجه بأشكال من القمع: أولها الشيطنة: حيث يُصوَّر كخائن أو مأجور أو عدمي. ثانياً يعاني الإقصاء حيث يُطرد من النقاش العام بوصفه “لا يُمثلنا”. ثالثاً التحقير حيث يُسخر من حساسيته، ويُتهم بأنه يعيش في الوهم أو النخبوية.
على كل حال ليست المسألة اليوم أن نكون “مع” أو “ضد”، بل أن نمتلك الجرأة على أن نقف خارج الروايات المغلقة، خارج الانتماءات الضيقة الجاهزة، خارج الخطاب المتكرر، والاختلاف هنا لا يكون في اختيار الجهة، بل في من اختاروا ألا يكونوا جزءًا من الجمهرة أصلاً. هؤلاء هم الخارجون عن الجمهرة، الذين لا يرون في الطائفة خلاصًا، ولا في الخصم شيطانًا. في لحظة ما، قد يبدو هؤلاء قلّة، مشتتين، منبوذين. لذلك المطلوب كثافة في الأصوات غير المنتمية للجمهرة، القادرة على الوقوف في وجه الحشد من دون أن تصير جزءًا من حشد مضاد. وحدهم هؤلاء من يملكون القوة الأخلاقية والمبدئية لمواجهة الجمهرة، والحشد، وشبح التوتاليتارية والدكتاتورية، لا باسم مكون، ولا باسم جمهرة، بل باسم الإنسان الذي يسعى لدولة المواطنة المتساوية والعدالة والكرامة.