
كثيرون يقفون حائرين: كيف تتم هذه المجازر في غزة، والرأي العام جزئياً يندّد بها، ومع ذلك لا تستجيب إسرائيل لأي من الضغوط الشعبية في مدن العالم؟
الجواب لأن إسرائيل واثقة بأن العواصم العالمية الرسمية المؤثرة تقف معها، بصرف النظر عمّا تقوم به في غزة أو في الضفة الغربية.
حاجتنا إلى فهم “المسألة اليهودية” فهماً علمياً لا فهماً عاطفياً أو خرافياً، تتأكّد أكثر بعد كلّ هذه المسيرة، التي أصبحت تقارب الثمانين عاماً، ولها ما قبلها، وبالتأكيد لها ما بعدها.
الدراسات المعمّقة المطلوبة هي محاولة الإجابة عن سؤال: كيف تحوّل الوضع العام في أوروبا (أوروبا الأكبر، بما فيها روسيا…) والولايات المتحدة، كيف تحوّل هذا العالم من كره ونفور شديد لليهود، وإنكار لمواطنيتهم، ثم عزلهم، ووضع كلّ الشرور الاجتماعية على أكتافهم (هذا الوضع ساد في قرون طويلة، قبل القرن التاسع عشر)، إلى احتضان كامل لما يقوم به اليهودي في إسرائيل اليوم؟
أهمية دراسة “المسألة اليهودية” من أجل إيقاظ فهم علمي موضوعي، غير تبريري، لما يقوم به الجيش الإسرائيلي في كلا المنطقتين، غزة أولاً، والضفة الغربية ثانياً.
وجد اليهود في أوروبا طريقهم إلى التمكن، من خلال ما عرف بمرحلة التنوير، قرب وبعد الثورة الفرنسية، أواخر القرن الثامن عشر. قاد مرحلة التنوير الأوروبي مجموعة من المثقفين الغربيين، ثم شارك فيها بشكل واسع مجموعة أخرى من اليهود، أو اليهود الذين أصبحوا مسيحيين؛ ففي أواخر القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، أتيحت الفرصة أمام القوى المضطهدة المختلفة في المجتمعات إلى الانعتاق. كان ذلك من خلال أفكار التنوير (فولتير ومونتسكيو وروسو) وانتشرت أفكار المساواة بين المواطنين. وما أن انتصف القرن التاسع عشر، حتى وجد اليهود الأوروبيون أنفسهم يخوضون معارك التنوير في أوروبا مع أقرانهم “الثوريين”.
لعب اليهود دوراً مهماً في التنوير، أو ما يعرف بالتنوير اليهودي، الذي استمرّ خلال القرن التاسع عشر، وكان هدفه دمج اليهود في المجتمعات الأوروبية الحديثة، عبر التعليم، والإصلاح الديني، ونشر قيم العقلانية والحرية. من أبرز مفكّري التنوير اليهود موسى مندلسون، الذي يعرف بأنه فيلسوف التنوير اليهودي، ودعا إلى التوفيق بين الفكرة اليهودية والتنوير الأوروبي، وكتب مؤلفات كثيرة، أكّد فيها أن الإيمان يجب أن يكون حراً وليس مفروضاً من الدولة، وشجّع اليهود على تعلّم اللغات الأوروبية، والخروج من الغيتو الفكريّ، الذي انحصروا فيه لقرون.
في روسيا، قاد فكرة التنوير إسحاق أبرافانيل، وهو من تلاميذ مندلسون، وأسس مجلة كانت منبراً لنشر الفكر التنويري بين اليهود، ودعا إلى التعليم الحديث. أما نافتالي هرس ويسلي، فكتب رسالة مشهورة دعا فيها إلى تعليم أبناء اليهود العلوم والفلسفة الحديثة، جنباً إلى جنب مع الدراسات الدينية، واعتبر أن التقدم الاجتماعي لن يتحقق من دون تبني قيم التنوير، كما دعا إلى دراسة اليهودية بالمنهج العلمي التاريخي، سعياً لجعل اليهودية ديناً عصرياً ومتوافقاً مع الدولة القومية. وهكذا ساهم مفكرون وكتاب يهود من أصل ألماني أو فرنسي أو إنكليزي في هذا التيار الواسع من عملية التنوير، الذي دام عقوداً، فكانوا مستفيدين من أفكار التنوير بالتأكيد، بل أيضاً فاعلين رئيسيين في صياغة أفكار التنوير ونشرها، خصوصاً عبر حركة “الهسكلاه”؛ هذه الحركة دفعت أوروبا إلى النظر إلى اليهود ليس فقط كأقلية دينية، بل كجزء من مشروع المجتمع المدني الحديث في الدولة الوطنية. وحركة “الهسكلاه” ظهرت في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، واستمرت حتى القرن العشرين. بدأت في ألمانيا أولاً، ثم امتدت إلى بولندا وروسيا وليتوانيا وشرقي أوروبا، وأخذت على عاتقها تحديث المجتمعات اليهودية التقليدية، التي كانت معزولة في مناطق الأشكناز والغيتوات، وأدخلت الصحافة العبرية الحديثة، وأصدرت المجلات أيضاً باللغة العبرية من أجل هذا الهدف.
شارك اليهود في كلّ الانتفاضات التي تمت ضد الحكم القيصري، تحت شعار التحديث. تقدّر المصادر أن اليهود في قيادة الثورة البلشفية بلغ 20% بينما نسبتهم في السكان لا تزيد عن 5%!
بعد الهولوكوست في ألمانيا، تبيّن للقادة اليهود أن طلب الاندماج غير مرحّب به في المجتمعات الغربية، فتوجّه كثير من القادة الفكريين اليهود، الذين انخرطوا في عملية التنوير، إلى فكرة أن الإنقاذ النهائيّ لليهود أو حلّ المسألة اليهودية هو من خلال تبني الأفكار الصهيونية، أي إيجاد دولة خاصة بهم، فاندمجت أعداد كبيرة في الحركة الصهيونية، ليس من اليهود فقط، ولكن أيضاً من الآخرين من المسيحيين المتشددين، الذي وجدوا بأن الحل النهائي للمسألة اليهودية، ليس فقط في عملية التنوير والمصالحة الاجتماعية والاندماج، ولكن أيضاً بإيجاد دولة لهم تخصهم وحدهم! واستطاعوا من خلال قدرتهم العلمية المكتسبة أن يؤثروا في الأوساط الأوروبية ثم الأميركية.
وهكذا بدأت الدولة الإسرائيلية بمجموعة من الأفكار الاشتراكية، والأفكار الإصلاحية الغربية، والاعتماد على العلم والبحث العلمي، مع مكون دينيّ يشدّ أزر فكرة الوطن اليهودي. من أشهر المنظّرين ليو بنسكر الطبيب الذي هجر فكرة الاندماج، وكتب كتاب التحرّر الذاتي auto-emancipation.
ذلك ملخص شديد للمسألة اليهودية وتطوراتها، ولا أطالب الدول العربية بإنشاء مركز أو تمويل مراكز للدراسة المسألة اليهودية، إنما أتمنّى أن يقوم أصحاب رأس المال العرب بتبنّي هذه الفكرة، وهي إنشاء مركز دراسيّ أو أكثر من مركز لدراسة المسألة اليهودية بطريقة علمية وعقلانية بعيداً عن العواطف، وبعيداً أيضاً عن الأساطير، للإجابة عن سؤال مركزيّ: كيف تحول المدافعون عن حقوق الإنسان والحريات إلى الإدمان على العنف؟
من هذه المعرفة يمكن الحصول على أدوات يمكن بها مقارعة فكرة الدولة الاستيطانية، وإقناع حكومات الغرب، أما الركون إلى العواطف أو الأساطير، فلن يقدم لنا شيئاً.
وإن نظرنا إلى المعالجات الحالية، الإعلامية والسياسية وحتى الفكرية، فسوف نجد أنها ضحلة، لا تفسّر هذا الواقع الذي نعيش فيه من قتل جماعي، واستهتار بالإنسانية من جهة، ودعم رسميّ من حكومات ديموقراطية ومن وجود رأي عام شاجب، مع تجاهل إسرائيلي تام في الوقت نفسه!