
أخرجت «انتفاضة الاستقلال» عام 2005 الجيش السوري من لبنان مستفيدة من مناخٍ دولي موآتٍ. أسقطت سرديات روجت لجعل الاحتلال مقنعاً، مثل «وحدة المسار والمصير» و«شعب واحد في بلدين»، والزعم بأن وجود الجيش السوري «شرعي ومؤقت». لكن القيادات الطائفية التي أذهلتها المظاهرة «الآذارية» المليونية، خافت من شعبها عندما طالب بقيام دولة طبيعية، فذهبت تلك القيادات إلى عقد اتفاقات في ما بينها، ليبدأ بعدها زمن التساكن مع «حزب الله» في سرير حكومي واحد، وتجديد نظام المحاصصة الغنائمي، وإرساء أُسس تغول الدويلة، و«الاقتصاد الموازي».
استُتبع القضاء وتعطلت العدالة، وترسخ «قانون الإفلات من العقاب»، فكانت المنهبة الأخطر في التاريخ: شملت المال العام والسطو المبرمج على الودائع في المصارف اللبنانية. سُرق البلد وتعرض اللبنانيون للإذلال وأُلحق لبنان قسراً بما يُعرف بمحور الممانعة. وكان الأخطر خسارة فرصة تاريخية لاستعادة الدولة المخطوفة وتحقيق الاستقلال الثاني.
تطلب الأمر 14 سنة لقيام ثورة «17 تشرين» 2019، التي إلى جانب رفضها السلاح اللاشرعي، فضحت مافيا الفساد وطالبت بالمحاسبة واستعادة حقوق الناس وحماية الحريات، ونجحت، رغم قمعها من «حزب الله»، في الحفاظ على استقلاليتها وإسقاط المحاولات الطائفية لاستقطابها. خلافاً لكل الثورات، طالبت بالتزام الدستور، وسجلت في الانتخابات العامة أوسع تصويت عقابي بوجه منظومة التسلط، فأوصلت 13 نائباً ممن ترشحوا على قوائم التغيير، ما حرم «حزب الله» وفريقه الأغلبية، ومنع الأكثرية عن «معارضة» نظام المحاصصة. وغداة زلزال «طوفان الأقصى» ونكبة حرب «الإسناد»، نجح المناخ «التشريني» في حمل القاضي نواف سلام إلى رئاسة الحكومة التي حققت بين تاريخي 5 أغسطس (آب) الماضي، و5 سبتمبر (أيلول) الجاري، خطوات عميقة على طريق إنجاز الاستقلال الثاني، بقيام دولة «كل اللبنانيين» التي تستعيد قرار الحرب والسلم، وتجمع السلاح اللاشرعي؛ لأنه بذلك تُستعاد قوة الدولة، وتبسط سلطتها بقواها الذاتية، لمتابعة المعركة السياسية والدبلوماسية لتحرير الأرض، وفرض عودة آمنة ومستدامة لعشرات ألوف الأسر الجنوبية المهجرة.
كان متوقعاً تمسك «حزب الله» بالسلاح الذي فقد صفته بأنه «سلاح مقاوم»، ولا قيمة ردعية له، وغير قابل للاستخدام ضد إسرائيل، لا الآن ولا في زمنٍ منظور. وبعيداً عن حملة التخوين التي يتقنها «الحزب»، والترهيب والتهويل باستهداف آثم لشخص رئيس الحكومة بالزعم أن إصراره على جمع السلاح اللاشرعي، سيفضي إلى حربٍ أهلية مستحيلة، تأكدت حقيقتان:
الأولى أن تسليم السلاح للجيش تنفيذاً لاتفاق «ترتيبات وقف الأعمال العدائية» الذي فاوض بشأنه الثنائي: نبيه بري ونعيم قاسم؛ يعني اعترافاً بالهزيمة، ما يطوي سرديات انتصارية يعمّمها الحزب على بيئته، وقد يتشظى بنتيجتها لأنه لا يحمل أي مشروع سياسي ويرتبط أداءه بمصالح الخارج.
والثانية، وقد جمعت «حركة أمل» إلى «الحزب»، وهي مرتبطة بالانتقال من وضع الدولة اللاطبيعية التي طوى زمنها زلزال المنطقة، إلى وضع دولة المواطنين الطبيعية. وبالتأكيد ليس أمراً سهلاً طي صفحة الدولة التي ترسخت زمن الاحتلال مع الانقلاب على الدستور وتهميش المؤسسات، وتشظي البلد طائفياً ومذهبياً، وتشجيع أطراف المنظومة الطائفية على مراكمة «المكاسب»، ما سهّل إحكام سيطرة «حزب الله» المتغلغل في مفاصل القرار، ليفرض شغوراً رئاسياً مديداً وفراغاً حكومياً شبه دائم، ويشكل حكومات مانعة لقيام الدولة، انخرطت معه المنظومة المافياوية التي تحاصصت معه البلد.
أحدث القرار الحكومي التاريخي يوم 5 أغسطس بحصر السلاح بيد الدولة التفافاً شعبياً حول السلطة، تعمق واتسع، مع قرارات 5 سبتمبر الجاري، لبدء جمع السلاح مع منع فوري لحمله أو نقله في كل لبنان: «قرارات واضحة لا تحتمل التأويلات» كما أعلن نواف سلام، منوهاً بترحيب مجلس الوزراء «بخطة الجيش حصر السلاح على كامل الأراضي اللبنانية وتنفيذها ضمن الإطار المقرر في جلسة 5 آب». فبدت مفهومة مقاومة المرحلة الجديدة التي يمر بها لبنان، لأن الثنائي في «حركة أمل» و«حزب الله» يدافعان عن وضع أمّن لهما مكاسب ومواقع فُرضت بقوة الأمر الواقع، ويغيظهما أي خطوة تنقل البلاد إلى وضع الدولة الطبيعية، نقيض ما عرفه البلد من اغتصاب للسلطة والقرار، واعتداء على الحق العام، وفرض إملاءات على القضاء… فيعود مجلس الوزراء مركزاً للقرار وليس الجهة التي تلتزم توافقات تحاصصية تتم خارجه.
التحديات كبيرة والاحتلال الإسرائيلي قائم وداهم ومسلط على كل اللبنانيين، ولا يواجه إلا بقيام دولة قادرة وعادلة، وجدية في العمل لإحياء اتفاق الهدنة. ودولة العدالة المرتجاة لتحوز التأييد الشعبي، بحاجة لحضور الإصلاحيين وتكاتفهم لتنفيذ إصلاحات شاملة قاعدتها المحاسبة واسترداد الأموال المنهوبة. وهنا الحذر واجب واليقظة مطلوبة؛ لأن الشركاء في الموبقات رموز التبعية ونهج الفساد لهم مواقع واسعة، وهم منظومة تناسل تسلطها منذ نهاية الحقبة الشهابية، كما أنهم ليسوا جزءاً من عدة الإصلاح والمستقبل وتحقيق الاستقلال الثاني!