التطورات التي شهدتها المنطقة ربطاً بحرب غزة، من العمليات العسكرية في سوريا والعراق واليمن واغتيال الجنرال الإيراني رضي موسوي بغارات إسرائيلية على دمشق، إضافة إلى استمرار المواجهات بين “حزب الله” وإسرائيل على جبهة جنوب لبنان، تؤكد الخطر المحدق من احتمال نشوب حرب كبرى، حتى مع تواصل المفاوضات من تحت الطاولة لإعادة الاستقرار إلى الجنوب والمبادرات التي تهدف إلى إرساء هدنة في غزة يعمل عليها المصريون من دون تسجيل تقدم بفعل الشروط الإسرائيلية ورفض “حماس” البحث في إطلاق الرهائن قبل وقف النار.
الوقائع الميدانية والسياسية تدل على أن كل الجبهات والملفات باتت مرتبطة بالوضع في غزة، إذ لا يمكن التقدم في المفاوضات قبل استشراف ما يمكن أن يحدث في القطاع، خصوصاً في جبهة جنوب لبنان، فيما تستمر الاتصالات الدولية ومعها رسائل التحذير من حرب إسرائيلية محتملة وانزلاق الوضع نحو مواجهة كبرى.
احتمالات الحرب الإسرائيلية على لبنان لا تزال قائمة، ليس بسبب استمرار المواجهات والعمليات العسكرية وانتقالها إلى مناطق بعيدة بما يتجاوز قواعد الاشتباك فحسب، بل لأن إسرائيل تواجه أزمات داخلية لعدم تمكنها من تحقيق إنجازات كبرى في غزة ولا تحقيق أهدافها المعلنة حتى الآن، فضلاً عما تسببه الجبهة الشمالية من مشكلات لقيادة الاحتلال، وهو ما قد يدفع قيادتها إلى الهروب من المأزق واستدراج “حزب الله” إلى حرب وإقحام الولايات المتحدة لتغطيتها في مواجهة كبرى قد تدخل بها إيران. وظهر التصعيد الإسرائيلي باغتيال أحد قادة الحرس الثوري الإيراني الجنرال رضي موسوي في سوريا، رسالة موجهة مباشرة إلى إيران، علماً أن إسرائيل وضعت خططاً مسبقة لم تخفها للهجوم على لبنان، حيث ضغطت الإدارة الأميركية لمنعها والتركيز على حرب غزة.
أصوات الحرب التي ترتفع في إسرائيل ضد لبنان بالتوازي مع الحرب على الفلسطينيين، وتدعو إلى إبعاد “حزب الله” إلى ما بعد منطقة الليطاني وفرض منطقة عازلة، واكبتها حركة مفاوضات واتصالات يقودها الأميركيون إلى جانب حركة فرنسية لافتة، لتثبيت الاستقرار في الجنوب، ولا تزال تدور حول تطبيق القرار 1701، وتعزيز دور القوات الدولية “اليونيفيل” وصولاً إلى البحث في ملف ترسيم الحدود البرية. لكن هذه المفاوضات لم تصل إلى نتيجة بفعل التصعيد الإسرائيلي العدواني، علماً أن “حزب الله” يرفض رفضاً مطلقاً إخلاء منطقة الحدود الجنوبية التي يعتبرها ساحته الأساسية، فأسقط مسبقاً ما يسمى المنطقة العازلة، واشترط البحث في أي ملف بوقف إطلاق النار في غزة. لا بل إنه يرفض أي تعديل لمهمة “اليونيفيل” على الأرض، حيث حدثت إشكالات مع الأهالي في غير منطقة عمل للقوات الدولية.
خلقت الحرب الإسرائيلية على غزة، بالتوازي مع التصعيد على الجبهة الجنوبية اللبنانية، مشكلات في الداخل الإسرائيلي. فعدم تحقيق إنجازات في غزة والغرق في وحولها بعد الهجوم البري وصمود الفلسطينيين الذين لا خيار أمامهم سوى القتال، وهو ما كبّد الاحتلال خسائر كبيرة، أخّر تنفيذ خطط الهجوم على لبنان، خصوصاً أن هناك ضغطاً أميركياً وخلافات داخلية بشأن العملية العسكرية ضد “حزب الله” وحدود أي توغل بري. لكن مأزق الحكومة الإسرائيلية يكمن بالضغوط التي يمارسها المستوطنون على الحدود الشمالية مع لبنان الذين أخرجهم الاحتلال إلى مناطق آمنة، ويشترطون العودة بإنهاء التهديد الذي يمثله “حزب الله”، وهو ما قد يسرّع حدوث حرب إسرائيلية ضد لبنان.
لكن تحقيق نتائج من حرب إسرائيلية واسعة غير مضمون، وهو أمر حذر منه الأميركيون إسرائيل، لا سيما مع احتمال تمددها إلى المنطقة وهم غير مستعدين للتورط فيها على أبواب الانتخابات الرئاسية ومع استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية، إلى المواجهة مع إيران. والأهم من كل ذلك أن الحرب الإسرائيلية عبر التوغل البري ضد لبنان بما يشبه اجتياح 1982، قد ترتّب خسائر كبيرة بمواجهة “حزب الله” الذي يتمتع بقوة تفوق قدرات “حماس”، لذا طرح قادة الاحتلال أن تكون الحرب تدميرية مع توغلات برية محدودة، لكنها في المحصلة قد تتحول أيضاً إلى حرب إقليمية لا يبدو أن المجتمع الدولي قادر على تغطيتها كما حدث مع “حماس” بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر).
في الجهة المقابلة، وبمعزل عما حققه “حزب الله” في عملياته المفتوحة نصرة لغزة، إلا أنه ليس بوارد التصعيد نحو الحرب الكبرى، وهو ينسجم بذلك مع توجه مرجعيته الإيرانية بإشغال إسرائيل والولايات المتحدة على مختلف الجبهات، من دون حرب كبرى، هي بالنسبة إليه أيضاً مغامرة لا يريد أن تقترب من حدود إيرن. لذا رغم التصعيد الكلامي الإيراني بالرد على مقتل رضا موسوي، إلا أنه رد مؤجل وهو لن يكون إلا عبر الجبهات وليس رداً إيرانياً مباشراً، على خلاف ما حدث بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني مطلع 2020 حين قصف الإيرانيون قاعدة الجيش الأميركي في العراق. فالرد يمكن أن يكون بالطريقة التي ينفذ بها “حزب الله” عملياته أو في العراق وسوريا. وعلى هذا يستمر الحزب بالوتيرة ذاتها انتظاراً لما ستؤول إليه تطورات غزة، علماً أن قوات الاحتلال دخلت غزة وهجّرت الفلسطينيين، معتبراً أنه حقق ضغطاً كبيراً على جيش الاحتلال الإسرائيلي وتهجير المستوطنين، وذلك على الرغم من الخسائر التي تعرض لها بسقوط عدد كبير من مقاتليه على الجبهة. وهو أيضاً تمكن من إفشال ما يسمى بالمنطقة العازلة وعدم تعديل مهمات “اليونيفيل”، وعزز قواته جنوب الليطاني بما يعني الرد على الطروحات الإسرائيلية الداعية لانسحابه.
لكن التصعيد الإسرائيلي بالقصف ووضع بنك أهداف تتخطى مناطق عمل القوات الدولية، يؤشر إلى أن احتمالات نشوب الحرب الكبرى على جبهة لبنان قائمة بالفعل، وهي إن استبعدت الآن، إلا أنها يمكن أن تشتعل في أي وقت نتيجة حسابات معينة، وتؤدي إلى توريط الأميركيين فيها. ويبدو وفق السيناريوات المطروحة أن إسرائيل قد تعتمد على القوة النارية التدميرية ضد لبنان، خصوصاً في المناطق التي تعتبر خزان “حزب الله”، وهو الذي سيرد بالقوة الصاروخية إذا حدثت الحرب، لكن نتائجها قد تكون كارثية على لبنان.
يتبين من خلال مجريات ما يحدث على مختلف الجبهات، خصوصاً في لبنان، أن التركيز هو على ما بعد غزة، انتظاراً لنتائج المعركة، أو إذا نجح المصريون في تسويق مبادرتهم بالهدنة والوصول الى وقف لإطلاق النار. وفي السباق بين الانفجار على الجبهة الجنوبية والتوصل إلى تسوية، ثمة رهان على مفاوضات تجري في الكواليس للتوصل إلى تفاهم على الحدود، لكنه غير ناضج حتى الآن. وما يدفع هذه الوجهة، هو التزام “حزب الله” بحدود المواجهة التي تتوسع حيناً وتتراجع أحياناً أخرى في شكل منضبط، وإن كانت ترتفع معها التهديدات الإسرائيلية بالحرب والاغتيالات.
كل ذلك يبقى مرهوناً بغزة، فإذا تحقق وقف إطلاق النار، لا بد من أن ينعكس على لبنان، بالتفاوض لإيجاد حل للمنطقة الحدودية والقرار 1701، خصوصاً أن الأميركيين يسيرون بهذه الوجهة منعاً للحرب أقله في هذه المرحلة، وصولاً إلى إطلاق مفاوضات لترسيم الحدود البرية، سيضطر معها “حزب الله” إلى تقديم تنازلات إذا تم التوافق على النقاط الحدودية وانسحاب إسرائيل منها. لكن هذا المسار طويل وهو لا يتحقق إلا بالتوازي مع ترتيبات تتعلق بالمنطقة. لكن الأمر مرتبط بمسار حرب غزة، وهو الذي يمكن أن يفتح على حرب كبرى أو تهدئة الجبهات.
Twitter: @ihaidar62