img

خلال الأشهر القليلة الماضية، كان تركيز المجتمع الدولي بطبيعة الحال منصبا على الأزمة في غزة. ومع ذلك، يجب أن لا نشيح بأنظارنا بعيدا عن أزمة متشابكة أخرى تهز المنطقة منذ ما يقارب الثلاثة عشر عاما؛ فما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب التي تلت ذلك يؤكدان لنا أن أي أزمة “مجمدة” يمكن أن تنفجر في أي وقت إذا لم يتم التعامل مع الجذور العميقة لذلك الصراع. ولهذا السبب، فإن بقاءنا متأهبين بشأن الأزمة السورية يُعد أكثر أهمية من أي وقت مضى من أجل التوصل إلى حل سياسي للنزاع.

تقارب الحوار وفشله

بعد أكثر من عقد من النزاع ووجود جبهات مستقرة نسبيا منذ عام 2020، يضعنا الوضع في سوريا أمام خيار مستحيل؛ إما التحرك نحو التطبيع دون تنازلات أولية، وإما التفكير مليا في الوضع القائم حاليا. ولا يمثل أي من هذين الخيارين حلا مقبولا.

أصبحت كلمة “التطبيع” هي الكلمة الرائجة عام 2023، في سياق إعادة دمج سوريا في جامعة الدول العربية في مايو/أيار الماضي، ومحاولة التقارب بين أنقرة ودمشق، فضلا عن بعض المناقشات بين “قوات سوريا الديمقراطية” والنظام السوري. ومع ذلك، تواجه كل هذه المسارات التعنّت نفسه من بشار الأسد، الذي يشكّل في النهاية أكبر عائق يواجه عملية التطبيع؛ ففيما يتعلق بالمحاولات العربية للتعامل مع النظام، لم تقدم دمشق أي تنازلات في أي مجال من المجالات التي حفّزت المبادرة العربية؛ حيث إن تهريب الكبتاغون في ازدياد مستمر بتواطؤ من النظام وجيشه، ويمكن الآن اعتبار سوريا دولة متورطة في تجارة المخدرات.

ولا يزال من المستحيل عودة الاثني عشر مليون سوري الذين غادروا منازلهم- أي نصف سكان البلاد، سواء كانوا  لاجئين أو نازحين- بطريقة آمنة وطوعية ومحترمة، حيث لا تتوافر الظروف الملائمة للعودة، والنظام لا يبذل أي جهد في هذا الاتجاه، خاصة فيما يتعلق بضمانات حماية العائدين. كما أن التقارب بين تركيا وسوريا استنفد زخمه دون أن يفضي إلى تحقيق أي نتائج ملموسة في ظل غياب إرادة من النظام للتوصل إلى تسوية.
وأخيرا، فشلت جميع جولات الحوار بين “قوات سوريا الديمقراطية” والنظام، بسبب رغبة النظام غير الملموسة في العودة إلى الوضع الذي كان قبل الحرب. هذه المحاولات الفاشلة عززت قناعتنا بأنه لا فائدة تُرجى من تقديم هدايا مسبقة للنظام قبل تقديمه لأي تنازل ذي قيمة.
والوضع الحالي لا يشكّل حلا قابلا للتطبيق أيضا؛ فالوضع على الأرض غير مستقر إلى حد كبير، والظروف المعيشية للسوريين تزداد سوءا بشكل مستمر.

تدهور أمني

شهدنا مؤخرا تدهورا حادا في الوضع الأمني، مما يدل على أن الحرب السورية لم تنته بعد؛ إذ شهدت سوريا مؤخرا أسوأ تصاعد عسكري لها في أربع سنوات، مع تصاعد التوتر والعنف في جميع أنحاء البلاد؛ فبالإضافة إلى توسّع الصراع في غزة والخطر في أن تصبح سوريا جبهة جديدة في الحرب بين إسرائيل و”حماس”، تعرضت الكلية الحربية في حمص لهجوم واسع النطاق، وشن النظام وروسيا حملة قصف واسعة وعشوائية شمال غربي سوريا، ونفذت تركيا غارات جوية مكثفة على مناطق شمال شرقي سوريا، التي شهدت أيضا تمردا قبليا كبيرا في محافظة دير الزور. علاوة على ذلك، يشكل “داعش” تهديدا حيا وينفذ هجمات قاتلة في البادية بشكل منتظم.
الوضع الإنساني أيضا يبدو مأساويا؛ فمن بين سكان يزيد عددهم على 20 مليون نسمة، هناك 15.3 مليون سوري في حاجة إلى المساعدة الإنسانية. فالزلزال الذي ضرب سوريا في فبراير/شباط 2023 أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني بشكل أكبر، ويواجه إيصال المساعدات الإنسانية الكثير من التحديات، لا سيّما بعد الفيتو الروسي على آلية توصيل الدعم الإنساني عبر الحدود في الصيف الماضي، وبسبب الآليات التي تم توثيقها بدقة والتي وضعها النظام السوري لتحويل مسار المساعدات الإنسانية. ومع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي، لم يبق في سوريا إلا من لم يتمكن من تحمل تكلفة مغادرتها، كما أن ترك الوضع كما هو من شأنه أن يعزز خطر حدوث المزيد من التدهور وإحداث عدم استقرار أعمق في سوريا والمنطقة ككل.

مسار ثالث

نظرا لأن أيا من هذين الخيارين غير مقبول ولا يمثل حلا على المدى الطويل، فإننا بحاجة إلى رسم مسار ثالث بشكل جماعي؛ تظهر الأوضاع على الأرض وتوازن القوى بين الأطراف بوضوح أنه لن تكون هناك تسوية عسكرية لهذا النزاع. وأن الحل السياسي هو الحل الوحيد الذي سيحقق سلاما دائما في سوريا ويتيح للسوريين العيش بأمان وكرامة. ويقدم قرار مجلس الأمن الدولي 2254 الذي اتُفق عليه بشكل جماعي في عام 2015 المبادئ التوجيهية نحو حل سياسي للنزاع. وتبقى فرنسا متأهبة بشكل كامل لتنفيذ هذا القرار وتتمسك بوضوح بموقف الاتحاد الأوروبي الذي يفيد بأنه لن يحدث أي تطبيع أو رفع للعقوبات أو إعادة إعمار في ظل غياب عملية سياسية موثوقة وشاملة.
إن جهودنا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ودعمنا للمبعوث الخاص للأمين العام لسوريا غير بيدرسون ثابتة ومستمرة. وفي الوقت نفسه، نحتاج أن نجعل جهودنا جماعية ونجمع الوسائل المتاحة لكل واحد منا لدفع النظام إلى تغيير سلوكه؛ فنحن حريصون على مواصلة حوارنا مع مجموعة الاتصال العربية في هذا الاتجاه. ومع ذلك، لن يكون هناك بناء مستقبل في سوريا دون المشاركة الفعّالة للسوريين. ولهذا السبب، تدعم فرنسا بشكل متواصل المعارضة والسوريين الذين قادوا كفاحا لا يعرف الكلل لما يقرب من ثلاثة عشر عاما من أجل العيش بكرامة، سواء من خلال الحركات السلمية مثل المظاهرات الأخيرة في السويداء ودرعا، أو من خلال خلق منتديات جديدة لجمع القوى المحركة في سوريا أينما وجدت.

دعم فرنسي

وفي هذه الأثناء، تستمر فرنسا في دعم السوريين، سواء كانوا في سوريا- بغض النظر عن المنطقة- أو خارجها. في مواجهة الوضع الإنساني الحالي في جميع أنحاء البلاد، ومع تهديد أزمة غزة بتعميق الإرهاق الدولي الحالي، فمن الأهمية بمكان أن يحافظ المانحون الدوليون على تمويلهم؛ إذ بقيت الحصة المالية المخصصة من قبل فرنسا للمساعدة الإنسانية في سوريا ثابتة- وهي ثاني أكبر مبلغ في ميزانيتنا للعمل الإنساني على مستوى العالم- وتمت زيادتها للاستجابة للزلزال الأخير. ويوجه جزء كبير من هذه المخصصات نحو شركاء محليين، مستقلين وموثوقين ينفذون مشاريع في جميع أنحاء سوريا في مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك الصحة، والتعليم، والإيواء، والدعم الاقتصادي، والمياه والصرف الصحي، وغيرها.
إحدى أولوياتنا هي دعم مبادرات المجتمع المدني السوري- داخل سوريا، وفي الدول المضيفة، وفي الشتات السوري- سواء كانت تهدف للدفاع عن قيم حقوق الإنسان، والحرية، والعدالة، أو تعزيز الحوكمة الشاملة أو الحفاظ على الثقافة والتراث السوريين. نحن نؤمن بأن مساعدة الشعب السوري اليوم هي مساعدة لسوريا غدا. كما أننا ندعم أيضا رواد المجتمع المدني السوري، وخاصة الرجال والنساء المشاركين في الدفاع عن حقوق الإنسان و/أو يكرسون حياتهم لمحاربة الإفلات من العقاب.

 

لا إفلات من العقاب

إن مكافحة الإفلات من العقاب في سوريا هي أيضا التزام فرنسي طويل الأمد. فبعد تقريبا ثلاثة عشر عاما على بداية الثورة السورية، تظل الهوّة بين الفظائع الجماعية التي ارتكبت في سوريا ومحاسبة مرتكبي تلك الجرائم هائلة. وفرنسا مصممة بشكل قاطع على استكشاف كافة السبل لضمان المساءلة عن هذه الجرائم، سواء من خلال دعمنا للجنة التحقيق والآلية الدولية المستقلة والنزيهة أو لعمل المحاكم الوطنية الفاعلة في هذا المجال؛ فالمحاكم الفرنسية في الصفوف الأمامية لتحقيق العدالة للضحايا. ولا يجب أن يتم إسكات الضحايا أو نسيانهم، كما يجب عدم التغاضي عن مكافحة الإفلات من العقاب إذ لن يكون هناك سلام دون عدالة.
فرنسا لا تنسى السوريين؛ تقف بجانبهم في مطالبتهم المستمرة بالسلام والكرامة، وتدعو المجتمع الدولي إلى عدم تجاهل الأزمة السورية بحجة أنها “مجمدة”؛ فهي ليست كذلك، واقتصار جهودنا على إدارة الأزمات في سوريا يزيد من خطورة تسخين الصراع في المستقبل.