وما تثيره هذه الوضعيّة الوجوديّة يتعلق بتفرُّدِها، الأمر الذي يستدعي تجاوز الرؤية التي تراها جزءًا من نظرية المؤامرة، أو العجز الذاتيّ. وقبلًا، حام ميلان كونديرا حول هذه القيمة الإنسانيـّة محدِّدًا العدو الأكيد لهذه الفئة وهو “الإنسان الذي يتساءل”، حتى انتهى مؤلف “المزحة” إلى أنها جرثومة في قلب الوجود البشري يجب قبولها كجوهر له.
ويلحظُ المُطّلِع على معجم المعاني كثرة المترادفات، وليس من بينها الذكاء (الصغار، الساقطون، الذين لا يؤبه لهم، وفيهم الجهول، السخيف، الخبيث، والذين لا يستحقون الذكر)، وكلها تحطّ من شأن أشخاص باتوا يتسيّدون عالمنا، ويتحكّمون بمفاصله الأهم في المؤسسات والدوائر الثقافية والرسمية، ويعرفون كيف ينتزعون الاهتمام الإعلامّي، ومن المؤكد أنهم لن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تماسك وحضور لولا أنّ هنالك ظلمًا كبيرًا لإمكاناتهم!
ولعلّ ما يلفت الانتباه هو الأسلحة التي تستخدم عادة لمواجهتها، والتي تتراوح بين الازدراء، أو التجاهل. والأول كالدواء منتهي الصلاحيّة، فأن تُشيحَ بوجهك عنها لا يعني أن تفعل هي المثل؛ بل اللاّفت أنها تتغذى في وجودها على هذه القيمة. وبنظرة واحدة على وسائل التواصل والميديا، نلحظُ أهميّة الازدراء في ديمومتها. يعود هذا في جزءٍ منه إلى كونها تنمو من خلال إثارة المشاعر القوية والتناقض مع الحقيقة. التجاهل، أيضًا، كنمط مواجهة أكثر حنكة في سلم القيم، لن يكون سوى “طوق حماية وهميّ”. وبهذا يتغذى التافه على الأساليب التي تُشهر لمواجهته، ولا يتبقى سوى التفاهم وهو في هذه الحال ـ أي التافه ـ لن يقبل بأقلّ من أن يعمّم حقيقته على الآخرين.
وبهذا توحي التفاهة وكأنها تتحرك وسط فكرة ثأريّة؛ لكن ممّ؟ ولماذا يحبِّذ التافه أن يوجد كانفصالي، ويحشد حوله الجمهور؟ لماذا يدمّر كل قيمة؟
تلقائيًا، ستستدعى للذهن مفاهيم (الفردية، والحريّة) وهي قيم تلاشت في الغرب الذي جعل العالم سوقـًا تحول فيها الإنسان إلى سلعة. محرومًا من الذاكرة، تم تفريغ حريته من معناها، وذاته من تحققّها عبر ربطه بالأهداف الآنيـّة للتنميط. وبالطبع ليست الأنظمة القمعيّة سوى الوجه (المعكوس)؛ فحين تنعدم الحريّة يبدأ البحث عن بدائل. والإنسان هو كائن البدائل بامتياز لا يُفلِت غصنًا إلاّ ليمسك آخر، وحين يتعذّرُ عليه الهرب لأعلى، يسلك طريق الهاوية.
والأهم أنّها توجد في ظروف لنسِّمها دراماتيكيّة للغاية، والحرية والتفاهة تتناسبان عكسًا مع بعضهما بعضًا؛ والذي يمكن ملاحظته أن فشل الذات في التحقق يجعلها خيارًا مُريحًا. فالإنسان يرغب بالكلام وهي كلام معكوس.
إنها تولد من الإنسان الذي يرى نفسه أقلّ من حريته.
ولعلها أكثر طرق الرفض سلبيةً، بل شكل مشوه من أشكال لا. وعند إغلاق الفم يكون الصوت نشازًا، ولحظة الخوف يصبح الملاذ الوحيد “أن توجد في وضع تافه”.
ونجد أنفسنا أمام طريقين، أحدهما يتجه إلى أعلى والآخر إلى أسفل، ما يذكرنا بالوجود الزائف، أو غير الأصيل، عند مارتن هيدغر “حيث تسقط الذات في أداتيّة الحياة اليومية”، ويرغب التافه أن يصبح موضوعا كغيره عبر التشويش على صوت الداخل، وإذا كان هيدغر اختصر السقوط في الثرثرة والفضول، وعدم التمييز، والتيه الداخلي والخارجي، فإن التفاهة ـ من بين كل أشكال الوجود ـ تبدو أشدّ عودًا، وأقوى شكيمةً.
وبنظرة خاطفة على العبثية، تتضح لنا صلابتها، فالعبثية صدمة الكائن بالقيمة، وهي النهاية المثلى للإنسان الحالم. وقد تكون أخلاقية كـ ميرسو، بطل رواية الغريب عند “ألبير كامي”، أو وجودية بطل هرمان ملفل في رواية “بارتلبي النساخ”.
إنها تتسم بالفاعلية إزاء الوجود القيمي، عكس التفاهة، فسؤال الجدوى والوجود والحقيقة لا يدخلان في دائرة اهتمامها، وفي هذا يتفوق التافه على العبثي ويتركه وراءه.
إنه يعبر الحدود.
ومن طرق الهرب: السخرية، وهي تختلف عن الفكاهة التي تحتاج إلى روح حرة “حيث نسيطر على المواقف ونعلو عليها”، فالأخيرة أشبه “بالتوليد السقراطي الذي يستخرج الحقيقة من قلب الجهل”، أو “قول الحقيقة تحت ستار الإضحاك”. وبخلاف ذلك، فالتفاهة تخلخل وتخرب بعمق كل صيغ التفاهم؛ لكونها تفتقر إلى الوضعيّة النقديّة، وتحارب من يرفض الانخراط في لعبتها؛ وهي لا تكتفي بتعليق الحكم، بل تريد تشويـه ما تطاوله؛ فالتافه لا يُحجِمُ عن الشرب من المياه، بل يريد تسميمها، أو بتعبير أحدهم “لا يكتفي بالعضّ، وإنما يريد أن يضحك”، فينساق ببساطة مع المستنقع، ويغطس فيه، فالسخرية نابعة من ذات غاب عنها مغزى حريتها، فأرادت أن تثبِّتَ نفسها في الحضيض.
يدرك التافهون الانفصال بين المنظومة الفكريـة والواقع الشعوري لمن حولهم، لذلك يعتمدون في نسفها على الثغرات التي تكشف عنها الهشاشة الإنسانية، وهذا يعكس ذكاءً في فهم الواقع (يقابله جهل كبير بالذات) وآليات التعامل معه بتحصين أنفسهم ضد النظام ومعرفة القوى التي تشتته.
وليس دقيقًا وصفهم بأنهم لا يستحقون الذكر، فهذه الفئة التي جعلها دونو كعصابة كلاب شاردة؛ تحتّم علينا أن ننظر في مقدرتهم… وبما أنه “لا يمكننا دائمًا تخليص أنفسنا منهم” لذلك فشجاعة التعرف على التفاهة لا التافهين قد تساعدنا على الاستفادة منها، والتعلم عن أنفسنا.
فالتافه أشد ذكاء مما يعتقد، وعجزه عن فهم منظومة الأفكار هو سرّ قوته. وفشل الخطاب القيمي للمجتمع كما اعتقد روفير يتحول إلى طريقةً لمواجهة هذا الخطاب عبر تحطيمه. يعرف الأساتذة في المدارس كيف يشوش عليهم الطالب غير المتلائم، ويفسد حصصهم بمهاتراته وإيماءاته.
يضع سؤال التفاهة الجديّة في مأزق المواجهة معها. ثم! ماذا لو تحدث التافهون؟
لا شك سيخبروننا أنّ زمن الجدية انتهى!
خصوصًا أن الجديـّة أضعف مظاهر التحقق الإنساني، فهي، وإضافة إلى كونها ليست حقيقية دومًا، فثمة خيط رقيق بينهما، وأقرب مثال الفارس دون كيخوت وطاسة معدنية على رأسه وسلاحه القديم المتهالك رفقة جواد أعجف هزيل، والأهم: رغبته بتحقيق قيم الفروسية في غير زمنها. في كلِّ الأحوال، تبدو التفاهة اعتلالًا في قلب وجود الذات وحكمتها: ليس أن توجد فحسب، بل أن تستمع بالتواجد في وضع تافه.
وبين الجدية والتفاهة تنوس الحياة الإنسانيّة، في جدل دائم يحرك الوعي لابتكار وجوده وفهم سقطاته، فأفضل الكتابات نشأت في زنازينها، وأعمق النصوص الأدبية ازدهرت تحت هذا الجدار لمقاومة ثقله وموجته المالحة. وإذا كانت حكمًا نهائيًا على الوجود، ففي إمكانها أن تصبح محركًا للوعي، وعنصرًا في نشوء الفن الجذريّ الذي لا يهادن.
ولا جدوى من وصف حشودها بالكلاب النهّاشـة التي تعض وتضحك، فهم حركة ضرورية تحرض العمل والفكر؛ لأن كل وضعيّة إنسانية تأتي من تناقض ما، لتخلق ما يتجاوز الإثنين معًا، وبما أن الوعي بحسب الرؤية الهيغلية يتحول ليصبح آخر غير ذاته، وإذا كانت مراحل تمظهرات الروح هي تحققاته فإن التفاهة لحظة فيها.
وتاريخ الوعي في العالم يثبت أنّها محركٌ، بل وعلامة مهمّة في تطوّر الروح. وإليكم الخبر الأفضل “التفاهة ليست فقط نوعًا من بقايا التطور البشري غير القابلة للضغط، بل على العكس من ذلك هي إحدى المحركات الرئيسيّة للتاريخ”.
في مجموعة “الجدار”، وفي جملة ذات دلالة، يقول بطل سارتر: إذًا، ما هي بالضبط مجالات تفوّقي على البشر؟ ويجيب: تفوق في المكانة ليس إلاّ: نصبّتُ نفسي فوق الإنسان الذي هو في داخلي وأخذت أتأمّله.
التافه سيضعُ نفسه تحت الإنسان، وهذه فرصة لنتعرف لما سيصدر عن هذه الوضعيّة، ومع أنه يمكن له أن يكرهك من دون أي سبب، كما يظهر لك، لكن بالتأمل قليلًا سترى أنّ “جراحه أعمق من جراحك”. ويمكن لنا أن نقتطف من هيغل: “التفاهة هي حرية تصارعُ نفسها”، ويمكننا أن نتعلم منها شيئًا عن التاريخ الروحيّ للإنسان، حيث يتجسّدُ في التفاهة “عدم الانسجام بين الذات والموضوع، وبين الحياة والمثل الأعلى”.
إنها الشكلُ الأمثل للعجزِ الذي يُلقي بنا بعيدًا. وحين يفرُّ الإنسان فلا ضرورةَ لأن يكونَ الهربُ إلى أعلى: لأنّه لا يتوجّب أن يسلُكَ الجميع الطُرقَ ذاتها.
إحالات:
– نظام التفاهة، آلان دونو، دار سؤال، تر: مشاعل الهاجري.
– درس فلسفي في التعاطي مع التفاهة والتافهين، مقال منشور في ضفة ثالثة، بشير البكر، 2023.
*كاتبة سورية.