لم تأت الانتفاضة الثالثة، التي طالما دعت ونظّرت لها، أو توعّدت بها، القيادات الفلسطينية، وبعض أصحاب الرأي الفلسطينيين، منذ سنوات عديدة، رغم توفر عواملها الموضوعية، المتمثلة في تردي الأحوال الاقتصادية والمعيشية، وانتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين ومقدساتهم، وانسداد الأفق السياسي أمامهم، لعدم توفر العامل الذاتي، لغياب رافعة سياسية للكفاح الشعبي، وبحكم الخلافات بين الحركتين الرئيستين، “فتح”، و”حماس”، المهيمنتين على الحقل السياسي وتحولهما إلى سلطة على الفلسطينيين، الأولى في الضفة والثانية في غزة، وأيضا بسبب الإحباط لدى الفلسطينيين، لافتقادهم لرؤية وطنية جامعة ومحفزة، مع غياب استراتيجية كفاحية واضحة وممكنة ومستدامة ويمكن الاستثمار فيها.

إذن، الانتفاضة المرتجاة لم تأت. أتت الحرب بدلا عنها، وهذه تختلف عن الحروب السابقة التي كانت تبادر إليها إسرائيل، إذ إن المبادرة هذه المرة من “حماس”، وهي السلطة في غزة، بعد محاولات دؤوبة لنقل تجربتها إلى الضفة، والتي تعثرت، بحكم اختلاف الظروف بين المنطقتين، وبواقع هيمنة “فتح” في الضفة، وممانعتها لذلك. بل إن دعوة قائد “كتائب القسام” (محمد الضيف) فلسطينيي الضفة والقدس واراضي الـ48 للانتفاض، أو للانخراط في المعركة، بأية طريقة، لم تلق الحد الأدنى من الاستجابة، وهذا تكرر في ضعف الاستجابة لدعوة النفير العام (الجمعة 20/10)، إذا استثنينا المظاهرات والاعتصامات ومشاعر الغضب، التي شهدتها مدن الضفة وبعض مدن الـ48، بسبب تشديد إسرائيل قبضتها الأمنية، من النهر إلى البحر، وموقف السلطة الفلسطينية، التي اعتبر رئيسها (وهو رئيس منظمة التحرير، وقائد “فتح”) بأن “حماس” لا تمثل الشعب الفلسطيني، وبحكم غياب كيانات سياسية فاعلة وجدية، إذ إن معظم الفصائل الفلسطينية باتت لزوم ما لا يلزم وانحسرت مكانتها التمثيلية في أوساط الفلسطينيين، كما تراجع دورها في العملية الكفاحية ضد إسرائيل، وباتت تفتقد لهويتها السياسية والفكرية، وتعيش على هامش محوري الحركتين/السلطتين، أي: “فتح”، و”حماس”.

المشكلة الأخرى في هذا المجال تكمن في أن سلطتي الضفة وغزة، عملتا كل شيء من أجل إضعاف الفصائل الأخرى، وإضعاف- وأحيانا إسكات- أي صوت مختلف. كما عملتا على تقويض ما يمكن تسميته المبادرات السياسية لجماعات مستقلة عن الفصائل، وكلها تطورات أدت إلى ضمور المجتمع المدني الفلسطيني، وغيابه، أو افتقاده للفاعلية، وذلك بالقياس للدور الذي لعبه هذا المجتمع في الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993)، إذ إن ذلك كان أحد أهم الارتدادات العكسية الناجمة عن تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة، تحت الاحتلال، وهو الأمر الذي استغلته إسرائيل تماما، في سعيها لشق المجتمع الفلسطيني، وإضعاف السلطة، وخلق واقع اجتماعي واقتصادي يعزز من الاعتمادية على إسرائيل (ثمة 200 ألف عامل فلسطيني في إسرائيل 20 ألفا منهم من غزة).
الآن، كان يفترض أن تحفّز الحرب الإسرائيلية الوحشية والمدمرة على غزة الفلسطينيين من النهر إلى البحر على الانتفاض، إلا أن ذلك لم يحصل، بسبب العوامل التي ذكرناها سابقا، وأهمها ضعف الكيانات السياسية الفلسطينية، وتقويض المجتمع المدني، وحال الاختلاف والضياع والإحباط بين الفلسطينيين، وأيضا بسبب فرض إسرائيل حالة الحرب، التي تتحلل بها من أية معايير في تعاملها مع الفلسطينيين.
مثلا، خلال أسبوعين من حرب غزة، قتلت إسرائيل قرابة 90 من الفلسطينيين، واعتقلت مئات منهم من كل مناطق الضفة والقدس، وحتى من فلسطينيي 48، واتخذت إجراءات عقابية ضد عشرات ومئات النشطاء الفلسطينيين بين البحر والنهر.
بيد أن التطور الأهم تمثل في إشراك ميليشيات المستوطنين المتطرفين، بعد تسليحهم بشكل رسمي، في عملية كبح جماح الفلسطينيين، وقمع أي حركة لهم، وضمن ذلك وضع حواجز بين قرى ومدن الضفة الغربية، في واقع باتت فيه إسرائيل تستبيح الأراضي الفلسطينية، ومعها حياة الفلسطينيين، بين النهر والبحر.
رغم كل ذلك فقد شهدت الضفة الغربية مظاهرات غضب عارمة، في الخليل ونابلس ورام الله وطولكرم وجنين والقدس، لكن تلك المظاهرات لم تصل إلى نقاط الاحتكاك مع الجيش والمستوطنين، كما أن بعض المظاهرات الغاضبة قمعتها قوات أمن السلطة الفلسطينية باعتبارها معادية لها، ومحاولة إضعافها، باعتبارها امتدادا لنفوذ “حماس” في مناطقها!

 

التطور الأهم تمثل في إشراك ميليشيات المستوطنين المتطرفين، بعد تسليحهم بشكل رسمي، في عملية كبح جماح الفلسطينيين، وقمع أي حركة لهم، وضمن ذلك وضع حواجز بين قرى ومدن الضفة الغربية، في واقع باتت فيه إسرائيل تستبيح الأراضي الفلسطينية، ومعها حياة الفلسطينيين، بين النهر والبحر

 

 

مثلا، في يوم واحد (19/10) قتلت إسرائيل 12 فلسطينيا في مخيم نور شمس (قرب طولكرم)، وفرضت الحصار عليه، وقطع المياه والكهرباء عنه، وهو نموذج لما يمكنها أن تفعله في أي منطقة أخرى، علما أن ثلاثة ملايين فلسطيني يعتمدون على مواردهم من المياه والكهرباء والوقود على إسرائيل، وعلما أن إسرائيل تسيطر على كل معابر الضفة.
في نظرة لسنوات سابقة يمكن ملاحظة أن ثمة ضمور في الكفاح الفلسطيني على المستوى الشعبي، إلى درجة يمكن القول معها إن فلسطينيي الأراضي المحتلة (عام 1967) كانوا، قبل إقامة السلطة (1994)، أكثر وحدة وتحررا وتصميما في مواجهتهم احتلال إسرائيل وسياساتها، منهم بعد إقامتها، سيما أن الحديث يدور عن حركة وطنية باتت متقادمة، ومتآكلة، وقد اختلفت مبررات إطلاقها في بدايتها (ملف النكبة) عن مبررات وجودها في نهايتها (إقامة سلطة في جزء من أرض لجزء من شعب)، وبتحولها إلى سلطة على شعبها، بدل أن تكون سلطة تجدد شرعيتها بناء على إدارتها كفاح شعبها بطريقة ناجعة، بأقل أكلاف ممكنة.
يمكن ملاحظة هذا الضمور، أيضا، بالمقارنة مع هبة الفلسطينيين من النهر إلى البحر، إبان الدفاع عن حي الشيخ جراح (2021)، تلك الهبة الواعدة، التي قطعها، في حينه، التحول نحو حرب صاروخية، فلا سمح لتلك الهبة بالتطور، ولا أفلحت الصواريخ فيما أريد منها.
أيضا يمكن تفسير عجز الفلسطينيين في الضفة، والقدس، و48، عن الانتفاضة، للتخفيف عن شعبهم في غزة، شعورهم بأن هذا الظرف (دوليا وعربيا) هو الأنسب لإسرائيل، أو الفرصة السانحة التي تتحينها، للبطش بهم، وإزاحتهم من المكان والزمان، واستكمال ما لم تقم به إبان النكبة الأولى (1948)، وربما أن وعيهم الباطني، أو العميق، يفيد بأن صمودهم في أرضهم، في 48، والقدس، والضفة، هو المرتجى الآن، في هذا الجنون الوحشي الإسرائيلي، وهو وحده الذي يمكن أن يفوّت الاستهدافات الإسرائيلية في هذه المرحلة، وفي ظل المعطيات السائدة.