الافتراض هو أن احتمال امتداد رقعة الصراع لتشمل لبنان سيزداد بشكل كبير حالما تباشر إسرائيل توغّلها البري في قطاع غزة. وما يدعم هذا الافتراض هو صدور = من أنها ستتدخّل في النزاع في حال إطلاق هذه العملية. يُشار إلى أن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان كان أكثر تحديدًا حتى في تصريحاته العلنية، مثلًا عندما : “إن لم تنجح مساعي وقف العدوان الإسرائيلي الذي يقتل أطفال غزة، فمن المرجّح جدًّا فتح جبهات كثيرة أخرى. هذا الخيار واردٌ ويزداد ترجيحًا على نحو متزايد”.
لكن السؤال الفعلي ليس ما إذا سيعمد حزب الله إلى التصعيد ضد إسرائيل في حال تنفيذ الاجتياح البري، بل كيف سيفعل ذلك ولأي غاية. لقد فُتحت بالفعل جبهة جنوب لبنان، مع أن حزب الله وإسرائيل منخرطان في ما يشبه رقصة “كابوكي”، حيث ، لتفادي الانزلاق إلى وضع قد يخرج في أي لحظة عن السيطرة ويمتدّ ليشمل المنطقة.
إذًا، هل بإمكان لبنان أن ينجو من المأزق في حال عمد حزب الله إلى الردّ على الاجتياح البري الإسرائيلي لقطاع غزة؟ سأجيب بهذا السؤال: لماذا زوّدت إيران حزبَ الله بما يتراوح بين صاروخ وقذيفة؟ لقد استخدم الإيرانيون ترسانة الحزب لردع إسرائيل عن الاعتداء على لبنان، لكن بدرجة أهم، لمنع إسرائيل أو الولايات المتحدة عن شنّ هجمات على إيران، التي تُعدّ منبع القوة والنفوذ الإقليميَّين. وإذ يضطلع لبنان بالأهمية باعتباره مقرّ وكيل طهران الأكثر فعاليةً، يبقى أنه ليس أهم من إيران نفسها.
إذا قبلنا بهذه الفرضية، فعلينا تفسير تصريحات عبد اللهيان على ضوء الاستراتيجية الإيرانية الرامية إلى استخدام وكلائها الإقليميين كدروع لصون أمنها. ويدفع ذلك إلى طرح السؤال التالي: هل إيران مستعدّة للتضحية بحزب الله لإنقاذ حماس، خصوصًا إذا أدّت الحرب المدمّرة على لبنان إلى تقويض قوة الردع التي يمتلكها الحزب لمدة عقد أو أكثر حتى؟
لماذا قد يحدث ذلك؟ لأن ما من دعم كبير يُذكَر في لبنان لخوض حرب ضدّ إسرائيل دفاعًا عن حماس. إن قرّر حزب الله الدخول في هذه الحرب، فالدمار الذي سيلحق بلبنان من شأنه أن يؤلّب معظم الطوائف، وربما حتى شرائح واسعة من الطائفة الشيعية، ضد الحزب بسبب استراتيجيته الكارثية المتمثّلة في ربط مصير البلاد بالقضية الفلسطينية. ونظرًا إلى أن لبنان لا يزال غارقًا في خضم انهيار اقتصادي ومالي كبير، قد لا يتمكّن من الخروج من الحرب ككيانٍ قابل للعمل. وثمة مخاطر حقيقية بأن البلاد قد لا تحافظ على تماسكها وأن الحرب قد تؤدّي إلى إشعال فتنة طائفية ستلقي عبئًا ثقيلًا جدًّا على كاهل حزب الله يستمرّ لسنوات عدة. وهذا الأمر من شأنه أن يشلّ إلى حدٍّ بعيد قدرات الردع التي يمتلكها الحزب بالنيابة عن إيران.
إذا افترضنا كل ذلك، واستطعنا الاتفاق على أن حزب الله لا يريد بلوغ هذه المرحلة، فلنتخيّل السيناريو التالي: إسرائيل تجتاح غزة وتخوض حرب شوارع تُقدِم خلالها على قتل عدد أكبر بكثير من المدنيين مما تفعل اليوم، لكنها تلقى أيضًا مقاومة قوية من حماس. فماذا سيحدث عندئذٍ؟ غالب الظن هو أن يزيد حزب الله حدة القصف عبر الحدود، لكن مع البقاء دون عتبة الأعمال الحربية الشاملة، من خلال الإحجام عن استهداف المواقع الاستراتيجية الإسرائيلية مثل الموانئ والمطارات، فضلًا عن المدن. ومن المحتمل جدًّا أن يُرغم هذا الأمر إسرائيل بدورها على تفادي القيام بذلك. لماذا؟ لأن الإسرائيليين سيتعرّضون على الأرجح إلى ضغوط أميركية كبيرة لتجنّب إطلاق شرارة صراعٍ إقليمي، حتى مع إدراكهم للمخاطر المحتملة المتمثّلة في شنّ حربٍ على جبهتَين، أو حتى على أربع جبهات إذا شرعت إيران ووكلاؤها في القصف من الأراضي السورية، واشتعلت جبهة الضفة الغربية أيضًا.
الواقع أن الاحتمال كبيرٌ أن تعمد إيران وحزب الله، في حال حصل تصعيد، إلى توسيع الجبهة بقصف إسرائيل من سورية أيضًا. وما سوى مؤشّر على ما قد يحدث. وقد أخبرني خضر خضّور، زميلي في كارنيغي، أن الميليشيات الموالية لإيران في شمال سورية نُشِرَت جنوبًا تحضيرًا لمواجهة محتملة مع إسرائيل. وهذه الأخيرة تحسّبًا لاستخدامهما من أجل إعادة تزويد الميليشيات الموالية لإيران بالعتاد في حال اندلاع صراع.
أما الفوائد التي سيجنيها حزب الله من توسيع الجبهة فواضحة. إذا استخدم الإيرانيون ووكلاؤهم الجبهة السورية للتصعيد على مستويات أعلى ممّا يفعلون في لبنان، فقد يمنحهم ذلك أفضليةً أكبر على إسرائيل، وفي الوقت نفسه يجنّب لبنان الدمار الشامل. فسورية قد تكون أقلّ تأثّرًا من لبنان بعواقب ردٍّ إسرائيلي، نظرًا إلى ما تشهده من صراع مدمّر منذ العام 2011، ناهيك عن أنها قد لا تكون على القدر نفسه من الأهمية في بنية الردع الإيرانية.
وإذا افترضنا أن القتال عبر الحدود استقرّ على هذا المستوى الأعلى لبعض الوقت، فيما تواصل إسرائيل تقدّمها إلى غزة، فسيكون هدف حزب الله الرئيس إبعاد القوات الإسرائيلية عن غزة، بدلاً من التصعيد بضرب المدن والأهداف الاستراتيجية. ففي نهاية المطاف، لن يوقف إطلاق الصواريخ على تل أبيب وحيفا الهجوم على غزة، غير أن إعطاء الانطباع بأن حزب الله قد يهاجم الجليل من شأنه أن يرغم إسرائيل على تقسيم جيشها، ما يخفّف بالتالي الضغط على غزة.
لكن ما الذي سيحدث إذا بلغ الجيش الإسرائيلي مرحلةً أصبح يشكّل فيها بالفعل خطرًا وجوديًا على حماس؟ بينما يفترض كثيرون أن ذلك يمكن أن يمثّل نقطة تحوّلٍ قد يلجأ عندها حزب الله إلى أسلحته الكبيرة، من الجدير التحقّق من مدى صحة هذا الافتراض، تحديدًا للسبب الذي ذكرناه في البداية: إذا ما أثار حزب الله ردًّا انتقاميًا إسرائيليًا واسع النطاق ضدّ لبنان، فقد يولّد ردّ فعل غاضبًا في البلاد، الأمر الذي سيجرّد إيران في نهاية المطاف من درعها الواقي المتمثّل في حزب الله، ويجعلها أكثر عرضةً للهجمات الإسرائيلية أو الأميركية.
هل من الممكن أن يمضي حزب الله قدمًا على أيّ حال، بالغًا أعلى مستوى من التصعيد؟ ربما. فسوء التقدير والتهوّر شائعان في حالات الانفعال كتلك التي نعيشها الآن. لكن ما نراه يوميًا في جنوب لبنان هو عكس ذلك، حيث لا يزال الطرفان يحترمان بشكل حثيث قواعد الاشتباك القائمة. إذًا، هل خرج لبنان من دائرة الخطر؟ بالتأكيد لا. لكن ذلك قد يعني أن إيران وحزب الله، إذا تجنّبا شنّ هجوم واسع النطاق ضدّ إسرائيل، فقد أدخلا المرونة إلى ما يُعرَف بحوار الردع مع إسرائيل، وهو ما سيتعيّن على الأطراف الأخرى في محور المقاومة، مثل حماس والجهاد الإسلامي، أن تأخذ عواقبه وحقائقه في الحسبان خلال عملياتها المقبلة ضدّ إسرائيل.
قد تكون هذه الحقائق مبنيّة على قاعدة أساسية، وهي أن إيران وحزب الله يقدّمان الدعم طالما استطاعا، ولكن ليس إذا كان ذلك يهدّد بقاءهما، وليس إذا كان يقضي على الدرع الذي أقامته طهران لحماية الجمهورية الإسلامية.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.