ما يزال عهد الملك فيصل بن عبد العزيز، الذي حكم حتى العام 1975، راسخاً في الذاكرة الشعبية العربية بصفته أكثر العهود الداعمة لفلسطين. وإلى الملك السعودي تنسب المقولة الشهيرة:”علّموا أولادكم أن فلسطين محتلة وأنه لا يوجد دولة اسمها إسرائيل”.

من عاصر تلك الحقبة سيذكر لغة الخطاب في وسائل الإعلام الرسمية في السعودية، وهي اللغة التي كانت سائدة في وسائل الإعلام العربية آنذاك، التي لم تكن تستخدم كلمة “إسرائيل” مثل: “الكيان الصهيوني”، أو” الاحتلال”. وحين تقع معارك دامية في الأراضي الفلسطينية تسارع القناة الرسمية بوقف بثها الاعتيادي فيما يشبه الحداد وتخصص الساعات لنقل الأحداث وإطلاق حملات التبرعات لصالح الفلسطينيين. من يذكر ذلك الماضي سيدهش اليوم بلا ريب حين يشاهد انطلاق احتفالات موسم الرياض الترفيهي في ذروة الحرب على قطاع غزة، وحين يقرأ لعدد منالكتاب والإعلاميين السعوديين وهم ينحازون إلى الرواية الإٍسرائيلية في سرد وقائع الحرب.

التحول في الموقف السعودي إلى النقيض التام جاء تدريجياً عبر سنوات كردة فعل بعد هجمات  الحادي عشر من سبتمبر 2001 واتهام سعوديين بالتورط في التفجيرات، فعمدت السعودية إلى تبرئة نفسها من تهم تصدير “ثقافة الموت” والتشدد الديني باعتماد خطاب إعلامي لنقد كل ما يحمل الصبغة الدينية، تدرج حتى وصل إلى فلسطين وفصائل “المقاومة الإسلامية” المرفوضة من المجتمع الدولي ومحور “الاعتدال” العربي، في أكثر من مناسبة عندما تُقصف غزة، كانت تظهر في الصحافة السعودية لغة خطاب تسخر من المقاومة الفلسطينية وتنحاز لصالح إسرائيل مبررة هجومها أنه رد على استفزات

وعززت قناة “العربية” التي تأسست في العام 2003، التوجه الجديد للسعودية بصورة أكبر، فتبنت نهجاً إعلامياً رأى البعض أنه يخدم مصالح الغرب ويمهدللتطبيع  في المنطقة، ويروّج لفكرة الحق التاريخي لإسرائيل في أرض فلسطين.

وصل التغيير إلى خطب الجمعة، التي تعكس دوماً سياسة الدولة، فتوقف الدعاء المعتاد على اليهود في الحرم المكي،  الأمر بأن “الدعاء بالهلاك على اليهود والنصارى أمر غير مقبول شرعاً”، وظهرت بدلا منها خطيا  تعيد شرح عقيدة “الولاء والبراء” وأنها لا تشمل العلاقات الدولية.

في أواخر العام 2020 وبعد اتفاق السلام الذي وقعته الإمارات العربية المتحدة مع إٍسرائيل أو ما يعرف بـ “الاتفاق الإبراهيمي”، شرعت السعودية في

 المناهج الدراسية، وحذفت  المواد التي تصور اليهود بشكل سلبي.

لم يعد التطبيع سراً ولا بعيداً، وهو ما صرّح به ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال مقابلة  مع قناة فوكس نيوز، الذي قال إن بلاده تقترب أكثر فأكثر من تطبيع علاقاتها مع إٍسرائيل. ولأن إسرائيل هي “العدو التاريخي” للسعوديين، فكان لا بد من تهيئة الرأي العام لقبولها وتوجيه العداء إلى طرف آخر، فظهرت في مواقع التواصل الاجتماعي حملات يومية تشنّها حسابات سعودية ضد الفلسطينيين بحجة الرد على تغريدات مسيئة للسعودية. وتداولت المواقع بكثرة مصطلحات مثل: “الفلسطينيون يكرهوننا” و “الفلسطينيون باعوا أرضهم”، بهدف تشويةصورة الفلسطيني التي لطالما كانت مقدسة لدى الشعب السعودي. كما انتشرت وسوم ، واسرائىل ، وحملات تقول إن هدفها تطهير  عقول الأجيال المقبلة من ما وُصف بالخرافة الكنعانية، ووصلت إلى التشكيك في أحداث تاريخية مثل قتل الطفل محمد الدرة في العام 2000، التي وصفت بأنها

يجادل كثر أن ما يحصل في مواقع التواصل الاجتماعي لا يعبر عن حقيقة الموقف الشعبي السعودي، وأنه يرفض بصمت سياسة حكومته، ربما كان ذلك صحيحاً، فقد كشف استطلاع  أن إسرائيل لا تحظى بشعبية لدى الغالبية من السعوديين، وأن نسبة ضئيلة هي التي تقبل بالتطبيع وحصرته في العلاقات الاقتصادية فقط، ورغم أن النسبة انخفضت جرّاء الحرب على غزة، لكنها ما تزال أعلى من تلك المسجلة  قبل توقيع “الاتفاق الإبراهيمي”. ولعلها مسألة وقت ليس إلا، قبل أن تتشكل ملامح السعودية الجديدة التي من المرجح أنه لا مكان فيها لفلسطين.

 لكن التطبيع المنتظر والمحتفى به رسمياً وإعلامياً، سيظل مرفوضا شعبياً وإن كنا لا نسمع إلى أصوات الرافضين بسبب القبضة الأمنية المشددة للدولة. فليس من اليسير اقتلاع القضية الفلسطينية التي تجذرت على مدى عقود في وجدان السعوديين. ولا أدل على ذلك من مشهد الطفل الذي رأيناه يبكي على ما يتعرض له المدنيون خلال الحرب على غزة، لندرك أنه رغم الحملات الإعلامية لتغييب القضية عن ذاكرة الأجيال الجديدة، ستظل فلسطين هي قضية السعوديين وأجيالهم المقبلة.

صفا ناصر، صحفية وباحثة مستقلة من اليمن. لمتابعتها عبر إكس