في ظل الترقب المسيطر اليوم لاحتمالات تطور الحرب في غزة إلى مرحلة التوغل البري الواسع النطاق من قبل القوات الإسرائيلية في مدن وبلدات القطاع، يسيطر جو من الضباب وتكثر الأسئلة والتكهنات حول أسباب تأخر أو تأجيل موعد انطلاق هذه الحملة المنتظَرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحرب لم تهدأ في باقي فصولها وتزداد مناخاتها توسعاً واستعاراً.

وفيما هي تكاد تختم الاسبوع الثالث من عمرها؛ لم تهدأ ولم تتوقف مطحنة الموت والدمار في صفوف كلا طرفي الصراع.

وحيث تجدر الإشارة إلى أنه في ظل عدم تكافؤ القوى بين الفريقين المتحاربين؛ تصبح غزة ويصبح المدنيون الفلسطينيون هم الضحية الأكثر معاناة، والأكثر رفداً لشلالات الدم في هذه المواجهة القذرة التي لم تحسب أي حساب لضرورة تحييدهم عن سكة قطار الدمار والدم والموت والتهجير.

المواجهة القذرة التي حصدت حياة عشرات الآلاف من الأطفال والمدنيين الفلسطينيين العزَّل، وقوَّضت أكثر من خمسين بالمئة من مباني وبيوت غزة،إضافة إلى تدمير جل المرافق العامة والمشافي، بحسب إفادة “المالكي” وزير خارجية دولة فلسطين، ويتواصل خلالهااستهداف الجسم السياسي والأمني لـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، حيث يقضي، وبشكل تراكمي، الكثيرون ممن هم قادة في المكتب السياسي للحركتين وفي المفاصل العسكرية والأمنية، ومن جهة أخرى تتواصل رشقات الصواريخ من جانب “كتائب القسام”، وإن بوتائر أقل، حيث يكثر حديث المراسلين عن تصدي القبة الحديدية لبعضها،أما لماذا التريث في دخول المعركة البرية؟ يبدو أنه لا يتوفر خيار بديل عنها أمام قادة إسرائيل، الذين تلقوا ضربة صميمية في الساعات الأولى من هذه الحرب والذين قد دفعوا فيها ومازالوا يدفعون أعداداً متزايدة من أرواح جنودهم وضباطهم، وصل بحسب اعترافاته إلى ما يفوق الثلاثمئة قتيل وأكثر من مئتي أسير أو مختطف.

وفي سياق ذلك يصبح من الحتمي ولا بديل أمام إسرائيل عن مواجهة  خيار كسر عظم “حماس” بالمعنى السياسي والعسكري، وأصبح ذلك هدفاً حدده رئيس وزرائها “نتنياهو” كسقف لا يمكن القبول بأقل منه لاستعادة كرامة وهيبة المؤسسات الأمنية والسياسية، هذه الهيبة التي تُجمع كل الأحزاب وفي المجتمع المدني الإسرائيلي على تحقيقه، وفوق كل ذلك صارت الدول الغربية ودول حلف الناتو وأمريكا على وجه الخصوص طرفاً أساسياً في السعي لتحقيقه وتوفير شروط نجاحه؛ بل شريكاً مباشراً في المواجهة مع “حماس” ومع الأطراف الدولية والإقليمية الداعمة لها.

ولأن الأمر كذلك؛ فالحرب لم تعدشأناً إسرائيلياً بحتاً، ولأن النجاح أو الفشل فيها سينعكس بدوره على الوزن الأمريكي والمصالح الأمريكية، فمن الطبيعي أن تطلب الإدارة الأمريكية التريث في اتخاذ قرار الاجتياح البري، ريثما تتوفر الشروط الملائمة لنجاحه، وريثما يكتمل الحشد الأمريكي، وفقاً لتقارير تجمع على ربط الأمرين.من هنا نفهم لماذا يتكرر الحديث، ومنذ الأيام الأولى وعلى جميع المستويات،أن الحرب ستكون طويلة وأن ساعة الصفر بحسب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي للدخول البري، هي رهن بحسابات تكتيكية وأخرى إستراتيجية. ومن هنا أيضاً تظهر الأهمية التكتيكية والإستراتيجية لمسألة دوام إحكام الحصار على غزة منعاً لوصول أية إمدادات لمقاتلي “القسام”، وعلى ضوء ذلك يصبح من السهل أن نفسر تكاثف الغارات على المطارات السورية في كل من حلب ودمشق، منعاً لوصول أية إمدادات عبرهما من إيران إلى غزة.

كذلك فإن تواتر حلقات العدوان على الأراضي السورية؛ فهوليس بالأمر الجديد، وقد صار سلوكاًإسرائيلياً دائماً وأحياناً شبه يومي ويندرج ضمن حملة مكافحة الوجود الإيراني والمليشيات التابعة له وقوى  حزب الله المنتشرة على الأرض السورية، لكن التركيز في الأيام الأخيرة على المطارات، ومحاولة تعطيل الخدمة فيها لابد أنه قد يكون مرتبطاً بحرب غزة وبمسألة وقف أية إمدادات عن الوصول إلى محتاجيها في خنادق القتال، ولا غرابة في الأمر أن يكون هو الهم المحوري للغارات على المطارات، وليس بالضرورة أن يكون المراقب خبيراً بالشأن العسكري حتى يضع فرضية الحرب الطويلة ضمن مستلزمات استمرار الحصار.وعلى قاعدة أنه في النهاية لابد أن تنفد احتياطات المقاتلين ويصبح الوقت مناسباًأو ينضج وقت ساعة الصفر آنفة الذكر.

وعلى نحو آخر، وبما يتجاوز مسألة غزة؛ فلا ريب بأنه قد برزت في السنوات الأخيرة نذر مواجهة متعددة الأوجه بين محورين في المنطقة؛ الأول مثلت إيران والقوى والمنظمات التابعة لها رأس الحربة فيه، ومعها تركيا وجماعات الإسلام السياسي، رغم بروز تناقضات طائفية ومذهبية مع النسق الإيراني والجماعات الإيرانية،وتقوده على المستوى العالمي أو تتبنى مصالحه لدى المنظمات الدولية وفي مجلس الأمن روسيا وإلى حد ما الصين.

يتلطى هذا المحور في مقارباته السياسية خلف الخطر الصهيوني، ويسوّق لشعار إزالة إسرائيل واعتبارها أنها رأس الشرور، أما موقفه في الأزمة السورية وفي باقي أزمات المنطقة ملتبس ولا يريد أن يرى أو أن يساهم بإيجاد أية حلول، يعمل على إطالة الأزمة ويصطاد في مياه الشعارات التي ملَّت منها الشعوب وفضحتها الاختبارات والمحطات العديدة.يعايش هذا المحور قلقاً خاصاً ولا يخفي خوفه من نضوب المحتوى في شعاراته، يعتمد سياسةخلط الأوراقويُبْطِنُ عداؤه لقوى العلمنة والديمقراطية.وفي مجريات الأحداث الأخيرة المتعلقة بفتنة دير الزور؛ كانت أصابع هذا المحور ضالعة فيها بشكل مباشر،حيث برزت مظاهر تضلع حزب الله في إرباك حراك السويداء الأخير.

وعلى صعيد آخر، وفيما يتصل بالمحاولات التي كانت جارية لإجراء أكثر من تطبيع في المنطقة لإنهاء صراعات دامية، وإتيان مخارج لأزمات المنطقة كالأزمة السورية من خلال المبادرة العربية التي رعتها الدول العربية بقيادة السعودية.وأيضاً وعلى نفس النحو محاولة السعودية لإيجاد حل للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي على مبدأ حل الدولتين، وبالتالي مايؤول إلى التطبيع، مقابل كل هذه التطورات؛ يقف هذا المحور بالمرصاد ويمارس موهبة خلط الأوراق ذاتها وشماعة “طريق الأقصى” التي هي طريق الشعوب المنهكة من الجوع والفقر والفساد والمخدرات والفوضى.

والمحور الثاني؛أمريكا وإسرائيل، وإلى حد ما بعض دول الاعتدال العربي. وإن لم تتبلور أطرافه بشكل واضح بعد؛إلا أنه يتخذ جانب الموضوعية في الموقف.كلا المحورين مشغول حتى الآن بأجنداته ومصالحه وليس مشغولاً بتحقيق حلم الشعوب في المنطقة في إقامة مجتمعات العدل والحداثة والديمقراطية.

ولكن وبمعزل عن أي رؤية رغبوية؛ فإن الواقع وكل الدلائل تشير إلى أنه صراع يوشك أن يصبح تناحرياً بين المحورين،أو يكاد يكون تناحرياً بين رأسي حربتي الصراع الإيراني والإسرائيلي. إنه تضاد بين مشروعين لا إمكانية للحل الوسط بينهما.

وفيما تسعى إيران لإقامة مشروع إمبراطوري شيعي/ فارسي الجوهر يمتد من طهران إلى العراق فسوريا ولبنان، ثم إلى اليمن والخليج العربي،وحقق خلال العقود الثلاثة الأخيرة نجاحاً نسبياً، مستفيداً من انكفاء الدور الأمريكي عن المنطقة ومن التفويض الروسي بإدارة الصراع في الملف السوري، هذا التفويض الذي تدلل التطورات على استنفاذ مهمته وعلى انقلاب وظيفته، ما يدعو للقول اليوم إن إيران في واقع الإقليم وفي الوضع السوري على وجه الخصوص، تواجه التحدي الإسرائيلي المدعوم بلا حدود من دول العالم الرأسمالي، الاتحاد الأوروبي وأمريكا، وأن هذا التحدي يواجه اختباراً تاريخياً ستقرر الأيام القادمة وجهته واتجاه تصاعده، سيما وأن التحشد الأمريكي والأوروبي الأطلسي قد بلغ مستويات لم يسبق أن تكرر منذ حرب الخليج في العام 1991 و 2003، حيث يتوالى ورود حاملات الطائرات والبوارج إلى شرق المتوسط والخليج.

ولأنها لحظة تاريخية بكل معنى الكلمة؛ فإنه يجب تسجيل جملة من النقاط الهامة، يقع على رأسها:

1 – إنه في إطار الفعل ورد الفعل؛ كان هذه المرة رد الفعل الأمريكي قاطعاً وحاسماً ومربكاً للموقف الإيراني حيال أية محاولة للتدخل في غزة إلى جانب “حماس” من قبل إيران أو حزب الله أو أي جهة محسوبة على الخط الإيراني، حيث هدد بالدخول في الحرب مباشرة ضد أي طرف يسعى إلى استغلال الظرف الإسرائيلي أو يعملعلى توسيع نطاق الحرب.

2 –في ظل الاستفراد الإسرائيلي بحركة “حماس”، وفشل إيران حتى الآن في جر الأطراف المحسوبة عليها إلى أتون هذه الحرب؛ ظهرت إيران في موقع المتخاذل تجاه حلفائها في غزة،أو بدت في دور العاجز عن الالتزام هي أو أي من حلفائها بالشعار الذي اعتادوا على تكراره والتلويح به عن وحدة المسارات ووحدة المواجهات مع العدو الإسرائيلي.

3 –خطأ قد تكون وقعت فيه حركة “حماس”أو مهندسي المحور في إيران أو تركيا، عندما اعتقدت بأن إسرائيللا تستطيع أن تغامر وتطيل أمد الحرب حرصاً على حياة المئات من الأسرى الإسرائيليين، الأمر الذي لم تعره إسرائيلي كبير اهتمام هذه المرة، وبأن هناك إرادة لاستمرار الحرب إلى مديات مفتوحة، الأمر الذي قد لا يكون في الحسبان انطلاقا من التجارب السابقة.

يُفهم من المسار الذي تأخذه الأحداث ومن ردود الفعل الأمريكية والإسرائيلية، أن عوامل مجابهة كبيرة بين المحورين المذكورين تتوفر بشكل متسارع، وأنه لامناص أمام ايران من الالتزام بالشروط الأمريكية، وأن أي تورط من جانبها أو جانب حلفائها؛ لا يمكن أن يتم إلا وفق التوقيت والروزنامة الأمريكية الإسرائيلية، هذا الانخراط وهذا التورط الذي يمكن أن نتحقق من حتمية وقوعه من خلال مؤشرات عديدة؛ يأتي في موقع الصدارة فيها تصريح “نتنياهو” وهو يتجه إلى قرار جمع مئات الألوف من قوات الاحتياط، مفصحاً أن وجهتها تغيير خارطة الشرق الأوسط بكامله.ثم توافد قادة دول الغرب إلى إسرائيل، في مشهد يشي ويوحي بحجم المهمة المزمع تنفيذها.

بقي أن نشير إلى أنه– وبكل أسف–أن استحقاقات الجغرافيا السورية ستكون الحلبة الرئيسية لهذا التطور المنتظر.