يعيش الفلسطينيون حرباً شرسة بلا ماء، بلا غذاء، بلا مساعدات، بلا هدنة، غزة مكان غير صالح للحياة، والنجاة فيه شبه مستحيلة. والآن، غزة خارج التغطية في أحيان كثيرة، ما يعني حرمانه من التواصل مع العالم الخارجي، وحرمان سكانه من التواصل في ما بينهم.

قطعت إسرائيل الإنترنت والاتصالات عن قطاع غزة المحاصر عشية يوم الجمعة (28/10/2023). تَرقّب “العالم” برعب عملية بريّة مهدت لها إسرائيل لأيام لـ”تطهير” غزة من حركة “حماس”، و”تدمير بنيتها التحتيّة” في القطاع الذي يحوي مليوني شخص، محرومين من الماء والغذاء والمساعدات، وتحت قصف لم يتوقف منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. غزة ومن فيها، تحت رحمة مهارة النجاة، هي “مربع قتل”  حسب المصطلح العسكري، كل من فيه “ميت” حتى يظهر حياً.

ساعات مرت قاتلة حرفياً على أهل القطاع. كان عليهم الموت بعزلة وصمت ودون أن يتمكنوا حتى من الاستغاثة. نشطت حملات رقمية تطالب بفك هذه العزلة ليعلن بعدها الملياردير الأمريكي إيلون ماسك أن خدمة الإنترنت عبر نظام “ستارلينك” للأقمار الصناعية ستؤمن الاتصالات لـ”منظمات الإغاثة المعترف بها دوليا”. ردا على منشور ماسك على موقع إكس، قال وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو قرعي إن إسرائيل “ستستخدم كل الوسائل المتاحة للتصدي لهذا الأمر”.

عاد الانترنت الى القطاع لكن لا ضامن أن لا تكرر اسرائيل قطعه مجدداً وعزل مليوني فلسطيني مجدداً.

يعيش الفلسطينيون حرباً شرسة بلا ماء، بلا غذاء، بلا مساعدات، بلا هدنة، غزة مكان غير صالح للحياة، والنجاة فيه شبه مستحيلة. والآن، غزة خارج التغطية في أحيان كثيرة، ما يعني حرمانه من التواصل مع العالم الخارجي، وحرمان سكانه من التواصل في ما بينهم، أي حتى التواصل بين الغزيين لإنقاذ بعضهم البعض من الموت الذي يهبط من السماء، المآذن تنعي غزة وسكانها، وتسجيلات متقطعة تصل من الداخل تطلب النجدة.  بينما نحن، من في الخارج، ننتظر الاحتمال الأكثر تراجيديّة.

عاد الانترنت الى القطاع لكن لا ضامن أن لا تكرر اسرائيل قطعه مجدداً وعزل مليوني فلسطيني مجدداً.

هل قطع الإنترنت عن غزة جريمة حرب؟

عام 2022، عندما حاولت روسيا قطع الإنترنت عن أوكرانيا، واستهداف بنيتها التحتية بهجمات سيبرانيّة، بدأ الحديث عن “جرائم الحرب الرقميّة” إثر استهداف روسيا محطات الطاقة والاتصالات، الشأن الذي قد يرتقي إلى جريمة حرب. لكن، يجب إثبات أن هذه المحطات استُخدمت لأغراض مدنيّة، أما في حال كانت عسكريّة، فالأمر مختلف. حينها، فتح إيلون ماسك، كاوبوي حريّة التعبير، شبكة الأقمار الصناعيّة “ستارلينك” في أوكرانيا  وأرسل معدات خاصة لتعود الاتصالات، ثم ما لبث أن عطّلها أثناء هجوم أوكرانيّ على روسيا. كتب ماسك حينها على X “إن على طلبهم (عدم تعطيل الإنترنت) ستكون شركة “سبايس أكس” شريكة في الحرب وتصاعد الصراع”، وفي حالة غزة، كتب ماسك بعد مناشدات عالميّة أن  ستارلينك “ستدعم الاتصال الخاص بمنظمات المساعدة المعترف بها دولياً في غزة”.

شأن مشابه قام به نظام مبارك عام 2011، حين عطّل خدمات الاتصالات عن المصريين مصر حينها ” كأنك أعدت رسم الخريطة ولم يعد لمصر وجود”، الأمر ذاته تكرر في سوريا، حين قطع نظام الأسد الاتصالات عن المدن والبلدات التي كان يستهدفها، وعام 2007 حصل الأمر ذاته في ميانمار، وعام 2005 في نيبال.

عزل فئة بشرية عن التواصل الخارجي وعن التواصل مع بعضها البعض، تكتيك لإدخال منطقة ما في الظلام، لإخفاء ما يحصل فيها عن أعين العالم، أو ما يُسمى، وهنا المفارقة شديدة التراجيديّة، “تأثير حماه”، في إشارة إلى مجازر حماة التي ارتكبها النظام السوري في الثمانينات في غفلة عن “العالم”.

الحديث عن جريمة حرب رقمية متكرر في الأدبيات القانونيّة، خصوصاً حين عن الهجمات الرقميّة التي تستهدف البنى التحتيّة والتي تمسّ الاتصالات والقطاع المدنيّ، فقطع الإنترنت والاتصالات يمهد لجرائم حرب،أن المحققين الدوليين يعتمدون الأدلّة الرقميّة والتسجيلات الهاوية والتقارير التي تبث من داخل مساحات الصراع، لإثبات وقوع هذه الجرائم.  منظمة العفو الدولية أعلنت في 27 تشرين الأول، انقطاع التواصل مع طواقمها في غزة، “ما يعيق توثيق الانتهاكات”، في حين أكدت الأمم المتحدة عام 2022، أن قطع الإنترنت عن بلد أو منطقة بكاملها “انتهاك لحقوق الإنسان”.

بالعودة الى السؤال “هل قطع الإنترنت عن غزة جريمة حرب؟”، ما زال الشأن غير واضح، خصوصاً أن التركيز على المنشآت العسكريّة يعطل هذه التهمة، كون الاستهداف لا بد من أن يصيب قطاعات الاتصالات المدنيّة، لكن هنا المفارقة، غياب الاتصالات يعطل عمليات توثيق الجرائم وإنتاج الأدلة، قطع الإنترنت يعرقل العدالة من جهة، ويترك المدنيين محرومين من أساليب النجاة من جهة أخرى (الاتصال بسيارات الإسعاف، الاتصال بالأقارب…الخ)، ناهيك بـ”ترك” المدنيين لمصيرهم أثناء ارتكاب الجريمة، وهذه بالضبط المفارقة التي يراهن عليها القانون الدولي. شكل الإدانة وإطلاق تهمة جريمة حرب محفوف بالكثير من العقبات القانونيّة، والتي أثبت أن أثرها الآني معدوم، وأثرها طويل الأمد يقدم عدالة مؤجلة قد لا تتحقق.

كتبت الصحافية في “واشنطن بوست” كارين عطيّة على منصة X مستغربة من وقوف منظمات صحافية إلى جانبها في سعيها الى إدانة قتلة الصحافي جمال خاشقجي، وتحدثوا عن “ضرورة أمان الصحافيين، خصوصاً في الشرق الأوسط”، لكنهم صمتوا عن قتل الصحافيين في غزة وقطع الاتصالات عنها، واصفةً هذا الموقف بـ”المشين حقيقة”.

المشين أن 24 صحافياً فلسطينياً قتلوا منذ 7 تشرين الأول، كما قُتل صحافي لبناني يعمل لصالح وكالة رويترز في لبنان، ونعته وكالة الإعلام ببرود يثير الحنق، هذه جرائم متكررة يومياً، أشدها فجاعة، مقتل أفراد من عائلة الصحافي وائل دحدوح  الذي يعمل في قناة “الجزيرة”.

هؤلاء لا حماية لحياتهم، ولا تنديد واضح بمن قتلهم، بل مجرد تكرار سؤال “هل تدين ما قامت به “حماس”؟”، هذه الصيغة محاولة للتعامي عن التاريخ والسياق الاستعماري والحصار الشديد الذي تخضع له غزة، والذي وصل حالياً حد اختفائها من خريطة الاتصالات، أي تحويل حتى الصحافيين والطواقم الطبيّة إلى أهداف محتملة، وهنا لا جدل حول الموضوع، استهداف الصحافيين والأطباء جريمة حرب، لكن هل نتأمل موتهم بصمت، لندين القاتل بعدها؟.

المشين أيضاً في لغة الإدانة هو استخدام الحياد في وصف القتلى الصحافيين، وكأن على الضحيّة أن يثبت أنه ميت لا فقط بالصورة، بل أمام مصادر محايدة بعيداً عن مكان الحدث، الحدث ذاته الذي لا وسيلة لنقله مباشرة أو إنقاذ ضحاياه بسبب انقطاع الاتصالات. وما يزيد الدمّ غلياناً، هو اقتباس الرد الإسرائيلي الرسمي المتكرر في هذه الحوادث كلها “الجيش الإسرائيلي يستهدف البنية التحتية لحماس”.

يمكن تفسير رد الجيش الإسرائيلي على أنه استهداف لكل من يقدم رواية مختلفة عن روايته، كل صوت ينقل صورة ضحيّة أو اسمها أو موتها، هو من “البنية التحتية لحماس”، خصوصاً أمام التعاطف العالمي مع إسرائيل في “حقها في الدفاع عن نفسها” إلى الحد التشكيك في المستشفيات ودورها في إنقاذ الأرواح، وهذا ما اتضح في الترويج للأخبار المزيفة، والشماتة العلنيّة، واتهام كل من لا يدين “حماس” بأنه جزء منها.

كل ما سبق لا يهم، المهم دوماً من وجهة نظر الإعلام الغربيّ هو سؤال “هل تدين ما قامت به حماس في الـ7 من تشرين الأول؟”، السؤال الذي يدفع ثمنه مليونا شخص في غزة، مدنيين وصحافيين، وعمال إغاثة، وطواقم طبيّة. سؤال الإدانة صمت إثره العالم عن المقتلة تاركاً الانتقام الأعمى يقود إسرائيل إلى “مسح غزة عن الخريطة”.