رومنطيقيو المشرق العربي

كتاب رومنطيقيو المشرق العربي

في نحو 550 صفحة، يُسائل حازم صاغية في كتابة”رومنطيقيو المشرق العربي” (رياض الريس 2021) النزعة الرومانسية للتيارات الفكرية والسياسية، القومية والإسلامية واليسارية، ذات النفوذ الأوسع في المشرق العربي منذ أواخر العهد العثماني وحتى ظهور داعش. ويحدّد الرومانطيقية في المجال السياسي، بأنها ضعف الصلة بالواقع وأحيانًا انعدامها، إذ إنّ الرومانطيقيين تجاهلوا التاريخ بذاته، فاستعجلوه أو تعقّلوا ما سواه على أنه التاريخ.

التمعن في مقاربة الصحافي اللبناني يُذكّر بنقداالفيلسوف النمساوي البريطاني كارل بوبر (1902-1994) للتيارات التاريخانية، الأفلاطونية والهيغيلية والماركسية، التي حمّلها مسؤولية صعود الفاشية والممارسات التي ارتكبها النظام الشيوعي في الحقبة الستالينية. تفترض تلك الفلسفات  مسارًا مسبقًا للتاريخ ومآلًا واضحًا يُفضي به إلى الاشتراكية أو المدينة الفاضلة أو تسيّد عرق بعينه، فتقسر الواقع وتنتهج مختلف أشكال العنف الاجتماعي والسياسي. ولمّا كان التاريخ بالنسبة لها معطىً مسبقًا توجّب عليها أن تكون الأداة التي تحميه من الجنوح عن مساره، لتصل بالتطور البشري إلى محطته الأخيرة ومصيره المحتوم.

“ترتحل نظرية” بوبر إلى كتاب صاغية، فرومنطيقيوه مثلهم مثل تاريخانيي بوبر، يجافون الواقع، فإما يعودون إلى الماضي المجيد أو يتقدمون صوب المجتمع الاشتراكي أو باتجاه الجنة. لتتغلب عاطفتهم على العقل ورغباتهم على المعطيات الواقعية، ولتنغلق الذات العربية على نفسها فتعادي التنوير والرأسمالية والحداثة والمدنيّة والعلم والديمقراطية، ولتُحكم بأنظمة شمولية قمعت معارضيها وقتلت الثائرين عليها للاستمرار باحتكار السلطة وغلق الأبواب أمام إمكانيات التغيير، وآخرها كان باب الربيع العربي.

“ترتحل نظرية” بوبر إلى كتاب صاغية، فرومنطيقيوه مثلهم مثل تاريخانيي بوبر، يجافون الواقع، فإما يعودون إلى الماضي المجيد أو يتقدمون صوب المجتمع الاشتراكي أو باتجاه الجنة

في تتبعه للنزعة الرومانسية، ينحو صاغية منحى بوبر في إرجاع رداءة التجربة وعنفها إلى عطب في الأفكار ذاتها، ومن أشدّ أعراض ذلك العطب عدم رؤية العالم كما هو، فالواقع جزئيات لا يمكن التقاطها والعمل عليها وفق تصوّر كليّ وقبليّ للمستقبل. هكذا، تأخذ البنية النظرية بحد ذاتها عند بوبر وصاغية دورًا مركزيًا في إنتاج الفشل والعنف والأنظمة الدكتاتورية، وكأنما الأفكار هي التي صنعت السياسات والشرور، لا الظروف الموضوعية التاريخية والسياقات المحلية الخاصة التي نشأت فيها الظاهرة السياسية.

بحسب صاغية، أودت رومانسية التيارات الفكرية والسياسية ببلدان المشرق العربي إلى نتائج كارثية على مستوى الانخراط في الحداثة ودولة المواطنة والنظام الديمقراطي، وإلى هزيمة كبرى على مستوى الصراع مع إسرائيل، فضلًا عن فشل في التنمية وبناء اقتصاد متين. كذلك فعل أفلاطون وهيغل وماركس، آباء التاريخانية وأعداء المجتمع المفتوح الذي نظّر له بوبر، فكانوا يوتوبيين وأنتجوا سرديات كبرى وتصورات كلية، أفضت إلى نشوء دكتاتوريات حاولت فرض تلك التصورات لتصبح واقعًا، فأفرزت القمع والفقر والحروب.

مارس بوبر وصاغية ذلك الضرب من “العقلانية النقدية” في قراءة التاريخ والحاضر، على أنها أداة علمية متطهرة من الانحيازات الأيديولوجية، وهنا يتوجب الأخذ بعين الاعتبار الفارق فيما ترتب على ممارسة الاثنين، من ناحية حجم الإرث ودرجة التأثير، ومن ناحية السياق الذي يجعل مقاربة صاغية تنويعًا على فلسفة بوبر. بيد أنّ تلك العقلانية بدت لديهما ولدى الكثيرين من منظّري الليبرالية، مثل ميزان بثلاث كفّات، فجمّعوا السيئات في كفة خصومهم واحتسبوها في كفة حسناتهم، بالتفاف منهجيّ أوصلهم إلى اعتبار الهشاشة التي اعتقدوها في النظرية المنقودة، دليلًا على متانة نظريتهم وصوابها، دون وجود أي اقتضاء منطقي بين الأمرين.

ما وراء يوتوبيا بوبر ورومانسية صاغية

تتطابق دلالات الرومانسية عند صاغية مع دلالات اليوتوبيا عند بوبر، لتأخذ مساحة المُفارِق للواقع وغير القابل للتحقيق. بيد أنّ تلك المساحة ليست واقعية بقدر ما هي خطابية وتستند إلى معايير أيديولوجية لتمثّل أحد ركائز واستراتيجيات الخطاب الليبرالي، الذي يُقصي أي مشروع أو تصوّر لواقع مغاير وينفيه إلى نطاق اليوتوبيا، أو يُسقطه في المستوى الرومانسي كما فعل صاغية، فيحكم عليه بأنه غير قابل للتحقق ولا يملك الإمكانات الموضوعية لذلك، ليبدو الخروج عن هذا الخطاب خروجًا عن المعقولية المعرفية بشكل عام.

يُصدّر عدد ليس قليلًا من الليبراليين نسقهم المعرفي على أنّه شامل للواقع والمستقبل بالمعنى المطلق، أي يتسع لتُنتج وتتفاعل داخله ووفقًا لقواعده، تركيبة معقدة من الأضداد والمتناقضات، بحيث تظهر مساحته كافية لتستنفد كل إمكانات الفعل والمعرفة. وعندما يُطرح ما يندرج في إطار النقد الجذري، يُوسم بأنه يوتيوبي ورومانسي وغير واقعي.

المسألة هنا هي أنّ إقصاء الخطاب الذي ينشد التغيير الشامل إلى مساحة غير القابل للتحقق، يؤدي إلى اختزال كل أشكال الممكن في الواقع، ويفضي إلى مسارٍ وحيد تاريخاني بالضرورة، يثبّت الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية، لتؤلّف مجتمعةً عنفًا مُؤسِّسًا لأشكال وممارسات عنفية مباشرة ورمزية.

وإذا ما واجهت البشرية مشكلات مثل الفقر والحروب المتنقلة والدكتاتوريات والعنصرية واحتكار الثروة وأنماط جديدة من العبودية واستعصاء حالة استعمارية مثل اسرائيل ، تُضبط عملية تبني الحلول وفق درجة تحقيقها لمصالح القوى المهيمنة. هذا التبني للحلول الجزئية، يتيح للسلطة إعادة إنتاج ذاتها باستمرار، ويضمن بقاء أبواب السيرورة التاريخية مفتوحة لها على المستقبل. ومن ميزات تلك الحلول الجزئية أنها تحمي المنظومة من الوصول إلى عتبات من التنتاقضات الداخلية قد تخلق أزمات ومآزق تهدّد وجودها.

حماة الوضع الراهن والأيديولوجيا

إنّ المطابقة بين مفهومي اليوتوبيا بالمعنى الليبرالي البوبري، والرومانسية السياسية بالمعنى الذي أخذته عند حازم صاغية، لا تكتمل دون فحص علاقتهما الوثيقة بالأيديولوجيا، على الرغم من تصديرهما خطابًا معاديًا لها يعدّ نفسه خارج دائرتها الجامدة، وأنه يمتاز بمرونة تجعله يتفاعل بحيوية مع جزئيات الواقع، مدعيًا امتلاكه أفكارًا لا تُفرض على الواقع من فوق إنما منبثقة من “حقيقته”.

في كتابة الأيديولوجيا واليوتوبيا، يرى كارل مانهايم (1893-1947)، أنّ ما يبدو يوتوبيًا (رومانسيًا) أو أيديولوجيًا، لا يعتمد على طبيعة الواقع فقط، إنما على ذهنية من يقوم بالتصنيف أيضًا. فعلى سبيل المثال: إن اليوتوبي هو الذي لا يقبل التحقّق بالمطلق بالنسبة لممثلي نظام مُعطى حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005)، والذي يعتقد أنّ “حماة الوضع الراهن” يمارسون نوعًا من خداع الذات عندما يصنّفون ما هو غير قابل للتحقق وفق نظامهم على أنه غير قابل للتحقق بالمطلق، فيعدّون النظام المعطى مقياسًا لكل شيء.

 

بالنسبة لكارل مانهايم يصعب تحديد معنى اليوتوبيا، ذلك أنّ المعيار الأول الذي يحدّد اليوتوبي هو “عدم التطابق”، أي عدم التوافق مع الواقع، والذي يُحيل بالضرورة إلى تقديم تعريف لما هو واقع فعلًا، فمن أجل قياس اللاتطابق مع الواقع لا بدّ من امتلاك مفهوم للواقع بالأصل. إنّ المعيار الثاني الذي يضعه مانهايم هو الأكثر حسمًا كما يشرح بول ريكور في محاضراته عن الأيديولوجيا واليوتوبيا، ووفقه تكون اليوتوبيا تدميرًا جزئيًا أو كليًا لنظام الأشياء السائدة في زمنها. وانطلاقًا من هذا المعيار يمكن موضعة اليوتوبيا برأي ريكور ضمن علاقة تضاد مع الأيديولوجيا، بحيث تكون الأخيرة هي ما يحافظ على نظام بذاته، ويقول “الأيديولوجيا تصنّف اليوتوبيا بأنها ما لا يمكن أن يتحقق، بينما هي شكليًا على وجه الدقة ما يمكن أن يتحقق”. وهكذا سيؤدي إقصاء اليوتوبيا و”الرومانسية”، إلى ما سمّاه مانهايم بطغيان الأمر الواقع، وبالتالي إلى استحكام قبضة الديكتاتوريات ومحتكري الثروة والتيارات المتطرفة، وكيان استعماري مثل إسرائيل، على الحاضر والمستقبل.

ربما لا يمنح المعيار الثاني التيارات الفكرية في المشرق العربي معنى اليوتوبيا على اعتبار أنها أيديولوجيّة، لكنه يوضح كذلك عدم انفكاك “حماة الوضع الراهن” عن الأيديولوجيا. ومن هنا شوّهت الأيديولوجيا اليوتوبيا، وفي حالتنا شوّهت الأيديولوجيا الرومانسية.

وعلى هذا المستوى النظري، يكون نقد صاغية للرومانسية السياسية نقدًا للتعبيرات عن إرادة تغيير الوضع الراهن، ومسعىً مؤدّاه اقتصار التغيير على تحسين عناصر الوجود الاجتماعي، مع الحرص على تثبيت الرأسمالية كإطار أبدي لذلك الوجود وشكل نهائي للاجتماع البشري، وكأنها تاريخانية معكوسة تسعى إلى تحقيق المسقبل بوصفه الواقع الراهن، على الرغم من خضوعه المستمر للتعديلات الجزئية التي تساهم في حمايته من أي خرق على مستوى البنية. لذا يمكن القول إنّ مساهمة صاغية في تقويض الرومانطيقية في الوعي السياسي لها نتائج تتعدى المناداة بالعقلانية، فهي لا تُفضي إلى ترسيخ الواقع بقدر ما تؤدي إلى تمكين علاقات القوة فيه.

بعيدًا عن جدوى وعدالة وأخلاقية الأدوات التي استُخدمت لتحقيق مشاريع سياسية أغرقت المشرق العربي بالكوارث، فإن النزعة الرومانسية مثلها مثل اليوتوبيا، هي نزعة تستهدف تغيير الواقع، وتمدّ الخطاب السياسي بطاقة نقدية تستهدف التغيير الفعلي، وتسعى إلى التحقق عبر إزاحة عناصر واقعية ومتحققة، ولهذا فإنها تدخل ضمن حيّز الإمكانية القابلة للتحقق، وهي دائمًا كذلك، وليس ضمن حيّز المستحيل. وعليه من غير الصواب إرجاع سبب فشل واستبداد وعنف التيارات السياسية التقليدية في المشرق العربي، إلى النزعة الرومانسية الكامنة في خلفيتها الفكرية، ومنحها دورًا أساسيًا في حالة الاستعصاء التي وصلت إليها بلداننا.

والسؤال الذي يحتاج نقاشًا طويلًا، هل تلك العقلانية النقدية الليبرالية، كافية لإنتاج واقع مغاير بمجرّد نقدها لتيارات فلسفية وسياسية أرادت تغيير الواقع بشكل كلي وعملت على ضبط مسار التاريخ؟ سواء أكانوا تاريخانيين يوتوبيين أم رومانسيين. ما يبدو حتى اليوم أن تلك الواقعية السياسية لا تتجه سوى إلى تكريس واقع راهن وموقف مهزوم إزاءه. قد تعارض نظامًا شموليًا لكنها توالي آخر، وقد ترفض درجة من العبودية لكنها تروّج لأشكال أكثر تعقيدًا منها، وقد ترفض إسرائيل، لكن لأنها واقع، تُطبّع معها.