إنها المرة الأولى التي تصل فيها اسرائيل إلى هذا المأزق الوجودي. لم تستشعر هذه “الدولة” منذ غرسها في المنطقة، بهذا الخطر الحقيقي والجدّي، والذي سيدفع الاسرائيليين لمغادرتها بفعل انعدام الأمن والاستقرار، وسقوط معادلة التفوق العسكري، بالإضافة إلى سقوط معادلة إنهاء القضية الفلسطينية وفرض التعايش الطبيعي مع إسرائيل في المنطقة. حتى الآن، وبعد محاولات كثيرة، لم ينجح الإسرائيليون في تحقيق أي إنجاز عسكري منذ تعرضهم لهزيمة هي الأكبر في تاريخهم. وربما سيراكمون عليها المزيد من الخسائر. حتى الآن كل محاولات الإجتياح البري تتعثر، فيما الولايات المتحدة الأميركية لا تريد لهذا الاجتياح أن يحصل، ونتنياهو يرضخ للأميركيين.

مأزق طويل الأمد
تجد اسرائيل نفسها مطوقة من كل الجهات، فهي غير قادرة على التقدم في غزة، علماً أنها تتعرض لعمليات قصف واستهداف من لبنان، ومن سوريا بشكل جزئي، وهو قابل لأن يتوسع. بالإضافة إلى دخول اليمن على الخطّ. لا تبدو هي في وارد القتال على أكثر من جبهة، ولا الولايات المتحدة وغيرها من القوى الداعمة لتل أبيب في وارد الانخراط في حرب إقليمية شاملة، لأن الإصرار الإسرائيلي على كسر حماس سيؤدي إلى إشعال المنطقة ككل. أصبحت إسرائيل أمام مأزق عسكري كبير وطويل الأمد، وأمام مأزق سياسي في ظل وجود نتنياهو على رأس حكومة الحرب، وهو المغضوب عليه داخلياً وخارجياً. كل هذه المؤشرات تسهم في إضعاف دولة قيل إنها أقوى الدول في المنطقة وجيشها لا يقهر، وجد نفسه مكسوراً ومهزوماً أمام قوى وحركات مقاومة وليس أمام جيوش نظامية لدول.

يمكن لهذه الحالة أن تولّد الكثير من الجنون الإسرائيلي، خصوصاً في عمليات الانتقام الإجرامية من أهالي غزة أولاً. وثانياً يمكن أن يكون هناك بحث عن مخرج للتراجع عن الاجتياح البري لغزة، وتطبيق الخطة الإسرائيلية القديمة الجديدة في تهجير الفلسطينيين، كل الفلسطينيين وليس فقط سكان القطاع. إذ وضع الإسرائيليون أنفسهم أمام معادلة تطهير عرقي وقومي وديمغرافي، هم سيدفعون ثمنه لا أحد غيرهم، بغض النظر عن نظرية تاريخية كانت تقول إن المخططات الإسرائيلية والأميركية لا تنتهي وإن طال انتظار تطبيقها لسنوات طويلة.

أعباء إسرائيل
أمام كل هذه الوقائع، لابد من العودة إلى بعض الرمزيات داخل إسرائيل، من خلال الاستنتاج بأن الجيش الإسرائيلي، والذي كان قتالياً وهجومياً طوال السنوات الفائتة، لم يعد كذلك. وأصبح في موقع الدفاع بدلاً من الهجوم. ثانياً، يمكن القول إن عصر الجنرالات المقاتلين في إسرائيل قد انتهى، فلم يعد من شخصيات قتالية بارزة كما كان الحال في السابق. ثالثاً، بنية الجيش الإسرائيلي من ضباط وعسكريين لم تعد لديها نية القتال، وتنفيذ المعارك الكبرى والغزوات، بخلاف ما هو الوضع لدى المستوطنين المتطرفين، الذين يرتكزون على جرائم بحق المدنيين والعزل في سبيل دفعهم إلى الخوف وإخراجهم من أراضيهم. رابعاً، غالبية عناصر القوات العسكرية أصبحوا يركزون في اهتمامتهم على الانضمام للجيش نظراً لما يحظون به من امتيازات، فيمضون فيه سنوات وبعدها يتقاعدون مقابل البحث عن طموحات أخرى، إما داخل دولتهم أو في أصقاع العالم. خامساً، إن نتنياهو شخصية سياسية متعجرفة، لا يمتلك أي خبرة عسكرية، وهو ما يزيد من أعباء اسرائيل.

في ظل هذه الحالة، وانسداد الأفق أمام العملية العسكرية في قطاع غزة، يجدر سؤال أساسي حول المخرج الذي قد يبحث عنه نتنياهو للخروج من مأزقه. من هنا تبرز تخوفات كثيرة من احتمال اللجوء إلى مواجهة عسكرية واسعة مع حزب الله، وبالتالي التحول من الجنوب إلى الشمال، إلا أن ذلك لا يبدو منطقياً، أولاً لأنه لن يكون قد فعل شيئاً تجاه حماس، وسيدخل في مواجهة خاسرة مع حزب الله. وبذلك ستكون إسرائيل بين فكي كماشة من الشمال والجنوب. ولكن ما يجدر الانتباه اليه نقطتان، الأولى تتعلق بمحاولة الإسرائيليين زيادة منسوب الاستفزاز لحزب الله ولبنان، سواءً من خلال تعميق عمليات القصف واستخدام الطيران الحربي. أو من خلال اللجوء إلى نصب كمائن كالمحاولة التي أجريت بالأمس وتم إفشالها. فهل هذا يهدف إلى استدراج الحرب على الجبهة الشمالية؟ والنقطة الثانية تتصل بحقيقة الموقف الأميركي وكل هذه الجحافل التي أصبحت تتزاحم في البحر الأبيض المتوسط، والتي على ما يبدو أن الإسرائيليين يراهنون عليها لقلب الموازين، فيما حتى الآن تبدو سراباً.. إلا إذا نجح الإسرائيليون كعادتهم في وضع الجميع تحت الأمر الواقع، واستدراجهم إلى الحرب الكبرى، كما فعلوا في العام 1956 والعدوان الثلاثي على مصر.