هجمات الفصائل الإيرانية على الأهداف الأميركية في سوريا والعراق، والرد الأميركي عليها بتكليف من الرئيس الأميركي نفسه، كما يقال، تعيد سوريا إلى الصورة بعد أن غطت عليها غزة. وتشكل هذه الهجمات مع الإحتكاكات المتواصلة بين حزب الله والجيش الإسرائيلي الصيغة الآنية للرد الإيراني على حرب إسرائيل على غزة. وتكثر التكهنات حول الصيغة اللاحقة لهذا الرد، وما إن كان سيفضي إلى توسيع رقعة الحرب إلى المنطقة بأسرها. وجاءت كلمة أمين عام حزب الله مساء الجمعة لتؤكد أن “الصيغة الآنية” هذه هي المعتمدة للمشاركة في الحرب ضد إسرائيل، بانتظار التطورات اللاحقة.

الحرب على غزة لم تشغل إسرائيل عن مواصلة قصف مواقع الفصائل الإيرانية التي ترد بقصف قواعد حليف إسرائيل الأميركي. ليس من جديد في القصف الإسرائيلي للمواقع الإيرانية في سوريا، بل “”الجديد” في الرسائل متعددة العناوين  التي يحملها الرد. وقد تكون الرسالة الأبرز هي للنظام السوري، والتي تتكرر مع كل قصف إسرائيلي أو أميركي لمواقع إيرانية في سوريا، من أنه ليس أفضل من النظام اللبناني المجرد من حق إبداء رأي بما يحدث في بلده.

موقع الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية نشر في 29 الشهر المنصرم  نص مقابلة مع المستشرق الروسي Nikita Smagin الذي وصفه ب”العلامة” في شؤون الشرق الأوسط. استهل الموقع المقابلة بمقدمة مطولة أشار فيها إلى قصف الطيران الأميركي لمواقع الحرس الثوري الإيراني في 27 المنصرم شرق سوريا، ونقل عن البنتاغون تأكيده بأن القصف جاء بموافقة مباشرة من الرئيس الأميركي. وقال بأن بايدن، وفي توجه شخصي نادر، حذر المرشد الأعلى الإيراني من الهجمات على العسكريين الأميركيين في الشرق الأوسط. وأشار الموقع إلى تصريح النظام الإيراني أكثر من مرة بأن الهجمات على العسكريين والقواعد الأميركية في الشرق الأوسط سوف تتواصل إذا استمرت الولايات المتحدة بدعم إسرائيل في حربها على غزة.

عنون الموقع نص المقابلة بتعبير للمستشرق “”ربما لا تزال سوريا تتكشف عن مفاجآت لهم جميعاً. تشخيص سيئ للكرملين”، وأرفقه بآخر ثانوي “تتبع روسيا الآن خطى إيران بشكل مباشر ومطيع كلياً، وأساليب روسيا وإيران تتطابق على نحو متزايد”.

في رده على سؤال ما الذي يمكن أن يبدأ الآن في سوريا أيضاً، وهل يمكن أن تصبح ميدان معارك كبرى، قال المستشرق بأن سوريا، وبمعنى ما، هي كذلك الآن. ويرى أن جبهة عريضة موالية لإيران تتشكل الآن وتحاول أن تبرز نفسها. وليست المرة الأولى التي تتشكل مثل هذه الجبهة حول قطاع غزة، كما أنها ليست المرة الأولى التي تقصف إسرائيل مطار دمشق وتتطاير الصواريخ فوق القواعد والأهداف الأميركية. الوضع مثير للقلق، لكنه من المبكر الإفتراض بأنه يشكل مرحلة جديدة. حين يجري الحديث عن تفاقم جديد بالوضع في الشرق الأوسط، فالمقصود هو لبنان الذي يشكل المكان المحتمل لفتح جبهة جديدة في “الحرب على إسرائيل”. ويرى أن مشاركة سوريا قد تكون لاحقاً، وينبغي أن تطرأ أحداث “كثيرة جديدة” لكي تفتح جبهة أخرى من سوريا ضد إسرائيل.

يقول المستشرق بأن تصرفات موسكو في سوريا بالفترة الأخيرة أصبحت إستمراراً مباشراً لإستراتيجية إيران التي تسعى لإجبار الولايات المتحدة على الخروج من سوريا. روسيا لا تريد أن تكون في هذا الوضع، وحين انخرطت في الصراع السوري العام 2015 لم يكن الكرملين يسعى لإخراج الولايات المتحدة من هناك، بل كانت سوريا تبدو له مكاناً ووسيلة المساومة مع الغرب. أما الآن ترى روسيا في الولايات المتحدة عدواً في كل بقعة على الأرض. فقد أصبحت تتبع صاغرة الطريق الذي عبّدته إيران، وأصبحت وسائل روسيا وإيران تتطابق بصورة متزايدة في تحديد الأهداف. بالطبع، ليس من مقر قيادة موحد يجمع عسكريي الطرفين، لكن الإستراتيجية الروسية الإيرانية يتم تنسيقها بشكل عام لأنها مشتركة وكل فريق يحاول أن يتكيف مع الآخر.

ولماذا تركز روسيا على سلاح الطيران في المنطقة بعد غزو أوكرانيا، يقول المستشرق بأنها حين دخلت المنطقة العام 2015 كانت تركز على القوات البحرية في إستراتيجية احتواء الولايات المتحدة. لكن هذه الإمكانية اختفت الآن. كان لدى موسكو في شرق البحر المتوسط قوات تعتبرها كافية لاحتواء القوات البحرية الأميركية. لكن الأمر أصبح أكثر تعقيداً الآن بعد أن أقفلت تركيا مضيقي البوسفور والدردنيل بوجه السفن الحربية الروسية. ويقول بأنه لم يعد من وجود تقريباً لأسطول روسي في سوريا، ويعتقد أنه لم يتبق هناك سوى طرادين صغيرين وغواصة. والتركيز على سلاح الطيران هو للتعويض عن غياب الأسطول الحربي.

يرى المستشرق أن حشد الأساطيل الأميركية في شرق المتوسط لا علاقة له بروسيا، بل يرتبط بالخشية من دخول إيران الحرب إلى جانب غزة. ويستبعد أن تقوم طهران بذلك، إلا إذا ورطتها الفصائل التابعة لها، وبالدرجة الأولى حزب الله. وبهذه الحالة ستجد موسكو نفسها وسط “تقاطع النيران” وسيتعين عليها أن تنخرط “بشكل ما” في هذا الصراع، مما سيجر الولايات المتحدة إلى الإنخراط بدورها أيضا. ومن الصعب عليه أن يتصور  السيناريو المحتمل للوضع في المنطقة حينها، لكنه يقول ب”إحتمال كبير” لسيناريو توجيه الولايات المتحدة ضربة جوية للأراضي الإيرانية، أو لإهداف إيرانية في سوريا تفوق قوتها بكثير ما شهدناه حتى الان. وعندها سيتبدل جذرياً تقييم جميع الفرقاء المعنيين بالوضع، ويقول بأن الحرب في سوريا الآن ترتبط بشكل وثيق بتطور المجابهة الفلسطينية الإسرائيلية.

قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، كان المستشرق “العلامة” عينه قد نشر في 10 المنصرم نصاً على موقع Carnegie موسكو الذي ينشر بإسم Carnegie Politika بعنوان “الجبهة المنسية. لماذا أحوال روسيا في سوريا تتطور إلى الأسوأ”. قال المستشرق أن روسيا تطرح أمامها مع إيران مهمة إخراج الولايات المتحدة من سوريا، “والأفضل من الشرق الوسط ككل”. إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا وما استتبعه من تقارب موسكو وطهران يفضي إلى عكس ذلك، حيث يتعاظم وجود الولايات المتحدة في المنطقة.

كرس المستشرق قسماً كبيراً من النص للحديث عن الحوادث المتزايدة بين الطائرات الحربية الروسية والأميركية في سماء سوريا، وقال بأن تزايد هذه الإحداث تزامن مع تصاعد الإشتباكات بين الأميركيين والفصائل الموالية لإيران في سوريا. ونقل عن معلومات أجهزة مخابرات مسربة إلى وسائل الإعلام تتحدث عن التنسيق بين طهران وموسكو اللتين تسعيان لإخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط.

رأى المستشرق أن “من غرائب المفارقات” أن الغزو الروسي لأوكرانيا منح العسكريين الأميركيين تبريراً واضحاً للمحافظة على وجودهم في سوريا. فكلما ازداد تورط روسيا في سوريا، كلما ارتفع وضعها صعوبة في اوكرانيا. وإذ تقدم موسكو على مناورات خطيرة قرب الطائرات الأميركية في سوريا، تمنح الأميركيين حجة للبقاء في سوريا.

رغبة روسيا المبدئية بالإحتفاظ بسوريا كمنطقة هادئة للوجود الروسي، ولا تتطلب الكثير من الأموال، تصطدم بصعوبات متزايدة. وإضافة إلى الصعوبات التي تخلقها هي نفسها بافتعال الإشكالات مع الولايات المتحدة، تساهم حكومة بشار الأسد في خلق المزيد منها. فاستعادة الأسد سيطرته على جزء كبير من الأراضي السورية، لم يترافق مع خلق ظروف حياة طبيعة في هذه المناطق. فالجوع والفساد أصبحا ملازمين للمشهد الإقتصادي الإجتماعي لحياة الناس، مع ما يخلفه ذلك من مشاكل في إدارة هذه المناطق.