منطلقات محمد عبد الفتاح في نقده «مرايا» نجيب محفوظ مختلفة جداً عن منطلقات الريسوني الإسلامية الإخوانية الحزبية. فحيثيات نقده لهذا العمل وأعمال أخرى لنجيب محفوظ لا توحي بأنه كاتب إسلامي، بأي درجة من درجات الاتجاه الإسلامي أو النزعة الإسلامية. وهذا أمر يستلفت النظر، لأن المجلات الإسلامية الحزبية وغير الحزبية، لا تنشر إلا لكاتب إسلامي.
مقاله ينطق بأنه معني بأدب القصة والرواية. وأنه مسيّس إلى حد فائق. وأنه مجافٍ لأدب نجيب محفوظ القصصي الروائي، ويمقت شخصه. وأرى أنه اسم مستعار لأديب أو ناقد أو كاتب صحافي معني بالأدب والنقد، مصري الجنسية.
قد يكون الذي سوّغ لأهل المجلة الإخوانيين نشر مقال لكاتب غير إسلامي؛ كراهيتهم لنجيب محفوظ؛ لشدّة إقبال القراء في مصر وفي البلدان العربية على قراءة رواياته، وأن نقد الكاتب غير الإسلامي لأعمال نجيب محفوظ القصصية والروائية تضمن نقداً أخلاقوياً. وهو النقد الذي يحاكم العمل الإبداعي من زاوية مفهوم الفضيلة والرذيلة.
العمل الأدبي الوحيد لنجيب محفوظ الذي استثناه من الثلب والاستنقاص هو ثلاثيته: «بين القصرين»، و«قصر الشوق»، و«السكرية»، بل أشاد به قائلاً: «ولا يستطيع أحد أن ينكر كيف عبر نجيب محفوظ عن مفهوم النضال والوطنية لدى الشعب المصري. وفيها يكاد يكون المؤرخ الروائي لهذه الفترة من تاريخ مصر».
وكان قبل إشادته بهذا العمل بخّس من عمله في كتابة السيناريو ومساعدا للسيناريست مصطفى سامي في أفلام حسن الإمام، إذ قال عن عمله هذا: وأفلام حسن الإمام ليست في حاجة إلى شرح فهي أفلام جمهور الترسو والشباك: جنس وخمر وابتذال. يقول: «وبعد الثورة انضم نجيب محفوظ ليكون أحد أسس الإعلام في الثورة. فهو رئيس ومستشار مؤسسة السينما والقطاع العام بها. ومن خلال هذا القطاع الذي ترأسه نجيب في مصر أخذ شباب مصر الحالي الفكر والثقافة والضياع والفراغ. تعلم الشباب من فكر نجيب محفوظ، تمجيد غزو اليمن في قصة ثلاثة أيام».
نقده قائم على محاكمة سياسية متطرفة لم يكن فيها نجيب محفوظ وطنياً إلا حينما «بدأ حياته مترجماً لبعض الكتب مثل (مصر القديمة)، ثم بدأ بتأليف القصص التاريخية مثل (رادوبيس) و(كفاح طيبة)، وذلك في الأربعينات حيث كان وطنياً يبحث في التاريخ وفي التراث»
الإسلاميون – كما نعلم – يعدون التاريخ والتراث الفرعوني، تاريخا وتراثا مرذولين، لوثنيتهما وجاهليتهما، بينما هما عنده موضع تثمين وإشادة. وهذا أحد الشواهد على أنه كاتب غير إسلامي.
وللتصحيح فإن نجيب محفوظ لم يترجم سوى كتاب واحد، هو كتاب «مصر القديمة» لجيمس بيكي. ترجمه في أثناء دراسته الجامعية عام 1932، ونشره له سلامة موسى.
من مفتتح نقده محمد مفتاح رافض لـ«مرايا» نجيب محفوظ، لأنه رأى أنها تقدم شخصيات غير سوية، أراد نجيب محفوظ أن يقول فيها هذه مصر وهؤلاء أجيال مصر في الحاضر والماضي. جيل قديم نهّاز للفرص، وجيل يطويه الخواء والتيه.
قال – وهو يعدد الشخصيات غير السوية -: «ورجل إخوان يتحول إلى درويش».
ورجل إخوان هو الذي وصفه الريسوني بـ«الفرد المهم»، وكان يعني به سيد قطب من دون أن يصرّح بذلك. مع وجود إشارة في مقاله بأن عبد الوهاب إسماعيل هو سيد قطب.
على عكس محمد عبد الفتاح ينطلق محمد المنتصر الريسوني في نقده لـ«مرايا» نجيب محفوظ من تثمين عال لقدر ومقدرة نجيب محفوظ الروائية. ونقده لمراياه انحصر في تقديمه لشخصية عبد الوهاب إسماعيل على أنه ممثل لفكر وتفكير جماعة «الإخوان المسلمين». واتهمه بثلاث تهم، هي: تملق الحكم القائم. عزوفه عن معرفة الأساس الجوهري الذي قامت عليه حركة «الإخوان المسلمين». ميوله الماركسية كما استخلصه من رواياته وإيمانه المطلق بالعلم والمنهج العلمي.
ساق الريسوني هذه التهم بعد أن أورد جزءاً من حوار الراوي الأخير مع عبد الوهاب إسماعيل قبل عام من مقتله.
ضرب الريسوني مثلاً على تملق نجيب محفوظ للحكم القائم، بإغفال الباحثين المصريين الذين كتبوا عن حركة تفسير القرآن، اسم سيد قطب. وأتى بشاهد واحد، وهو كتاب لأحد الباحثين، كان قد صدر قبل نشر مقاله في مجلة «المجتمع» الكويتية، بسنة وثلاثة وعشرين يوماً.
أدار الريسوني مقاله على إثبات التهم الثلاث التي اتهم فيه نجيب محفوظ بها، وطفق يجادله في صوابية الاتجاه الإخواني، وموقف الإسلام الإيجابي من العلم، وأن الإسلام «حركة نقدية» انتقدت الوضع الإنساني في تصوراته المنحرفة، وسلوكه الشاذ وثقافته المتأثرة بأفكار فاسدة إلخ… إقحام الريسوني الحديث عن سيد قطب وعن كتابه «التصوير الفني في القرآن» وكتابه «مشاهد القيامة في القرآن» وكتابه «في ظلال القرآن» كان إشارة غير مباشرة إلى أن نجيب محفوظ يقصد سيد قطب. وهكذا فهم محمد حسن عبد الله في كتابه «الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ» هذه الإشارة لكنه لم يقدم صورة دقيقة عما جاء في مقال الكاتب الإسلامي المغربي، محمد المنتصر الريسوني.
المغربي الريسوني توفرت لديه قرائن لم يفصح عنها، بأن عبد الوهاب إسماعيل هو سيد قطب والذي أحجم عن النص على اسمه، توفرت لديه قرائن لإلمامه بسيد قطب، سيرة، وناقداً أدبياً ومنظراً إسلامياً. فلقد قرأ كتب سيد قطب الأدبية بعد أن بلغ سن الحلم، وهو ما يزال يتلقى علوم اللغة والدين على يد والده بين صلاة المغرب وصلاة العشاء، مع نفر من التلاميذ على الطريقة التقليدية التي تقوم على حفظ المتون وشرحها. وكتب سيد قطب الأدبية قادته إلى كتبه الإسلامية.
وتعرف على دعوة «الإخوان المسلمين» من بعض زملائه في حلقة الدروس التي كان شيخها أباه، الذين كانوا من «الإخوان المسلمين».
شغف الريسوني إعجاباً بسيد قطب منذ تلك المرحلة الدراسية الأولى، شغف به أديباً، وناقداً أدبياً ومنظراً إسلامياً. ومن آيات شغفه به أن من أوائل مقالاته، كان عرضاً احتفائياً بكتابه «التصوير الفني في القرآن» نشره عام 1962، بجريدة مغربية إسلامية، وكتابته أشعاراً فيه، وتسميته ابناً من أبنائه ولد عام 1974، قطباً، ليحمل اسم عائلة سيد قطب، وكتابته دراسة تمجيدية عن سيد قطب ومنهجه في التفسير، نشر قسماً منها في مجلة «دعوة الحق»، بتاريخ يونيو (حزيران) 1982، وقسم آخر نشره بتاريخ يونيو 1983. وأصدره في كتاب عام 1987.
لو لم يتردد الريسوني في حسم أن عبد الوهاب إسماعيل هو سيد قطب، ولو لم يضع احتمالاً للخطأ في اجتهاده هذا، وذكر اسم سيد قطب صراحة، لعزي له الفضل كاملاً بمعرفة أن عبد الوهاب إسماعيل هو سيد قطب بقضه وقضيضه.
إن تردده وخشيته من الوقوع في الخطأ هما اللذان جعلا اكتشافه يذوي مع نشره لمقاله في مجلة «المجتمع»، وألا يكون لهذا الاكتشاف المبكر أي صدى في كتابات الإسلاميين. وأقول عنه اكتشاف مبكر، لأن ما بين نشر «مرايا» نجيب محفوظ في كتاب عام 1972، ونشر مقاله في عام 1973، لا يتعدى أحد عشر شهراً وثلاثة وعشرين يوماً، بيوم واحد. وأحسب أن تردده هو الذي جعل محمد حسن عبد الله يتردد في أن عبد الوهاب إسماعيل هو سيد قطب على وجه اليقين. وللحديث بقية.