المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي يتحدث خلال اجتماع مع الطلاب في 1 نوفمبر 2023 (أ ف ب)

على رغم التغيير الذي أحدثه انتصار الثورة  في فبراير (شباط) سنة 1979 على المستوى الجيوسياسي بمنطقة غرب آسيا عامة  خاصة، لم الشرق الاوسط يغب عن طموحات الحكام الجدد في إيران والنظام الذي أسسوه محاولات الحفاظ على الموقع السياسي والاستراتيجي الذي كان يلعبه النظام الملكي في المنطقة، والذي استطاع تكريسه من خلال تحالف عميق مع الولايات المتحدة الأميركية، بحيث تحول إلى شرطي يتولى مهمة الحماية والهيمنة في محيطه العربي الحيوي. ولم تحل طبيعة النظام الجديد الأيديولوجية والعقائدية من السعي وراء تحقيق هذا الهدف، وأن يعمل على تبديل القبعة العسكرية التي كان الشاه يضعها لتثبيت البعد العسكري في مهمته بالعمامة التي تعطي للمشروع بعداً أكثر تأثيراً بما لها من بعد ديني وعقائدي وأيديولوجي.

بعد تجاوز عقدة الحرب العراقية التي كبحت المسار المتسارع للطموحات الإيرانية لمرحلة استمرت ثماني سنوات، إلا أنه لم يتخل عن هذه الطموحات، من خلال وضع استراتيجية الاستحواذ على القضية العربية والإسلامية الأولى المتمثلة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي واستغلال الفرصة التي أتاحها الاجتياح الإسرائيلي للبنان في يونيو (حزيران) 1982 وما نتج منه من تشتيت الوجود الفلسطيني وخروج منظمة التحرير من لبنان، وبروز بوادر حركة مقاومة جديدة لبنانية عقائدية وجدت في البعد الديني والأيديولوجي للنظام الإيراني مظلة وراعياً لها، وهي الظاهرة التي تطورت للتبلور لاحقاً تحت مسمى “حزب الله”، الذي تحول إلى مدخل فاعل ساعد في عملية التأسيس الإيراني داخل الساحة الفلسطينية بعد أن فشل في إخضاع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ووضع في سياق الرؤية والمشروع الإيراني الإقليمي من بوابة القضية الفلسطينية.

في موازاة هذا التأسيس، وخصوصاً خلال مرحلة ما بعد الحرب العراقية، لم تهمل طهران طموحاتها للدخول على المعادلات السياسية والاستراتيجية بالشرق الأوسط، سياسياً ودبلوماسياً، من خلال بناء تحالفات مع دول محور “الصمود والتصدي” خصوصاً النظام السوري بقيادة الرئيس السابق حافظ الأسد في إطار علاقة براغماتية وفرت لها الحضور في الإقليم من خارج حربها مع العراق، وساعد الأسد في توظيف هذه العلاقة لتعزيز مواقعه على الخريطة السياسية العربية والإقليمية والدولية. وقد حاولت طهران لاحقاً توظيف هذه العلاقة مع سوريا للدخول على لقاء الإسكندرية الثلاثي الذي ضم كلاً من سوريا والسعودية ومصر.

أمام الموقف العربي وخصوصاً الخليجي وتحديداً السعودي المتشدد في مواجهة الطموحات الإيرانية، لجأ النظام في طهران لتوظيف التمدد والنفوذ الذي حققه في الشرق الأوسط على حساب المصالح العربية، وبخاصة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق ونشوء نظام جديد في بغداد استطاعت مصادرته والسيطرة عليه، من أجل الدخول على المعادلات الخليجية بمساعد بعض الأطراف العربية، من خلال الطرح الذي عملت من أجله والذي يسمح لها بأن تكون عضواً في مجلس التعاون الخليجي، وهو ما لم يكن ممكناً، بخاصة أن هذه الدول اتخذت موقفاً موحداً وواضحاً يرفض التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لهذه الدول والطموحات التوسعية للنظام الإيراني على حساب نظام المصلحة العربية.

 

النظام الإيراني حاول الالتفاف على التصلب العربي الرافض لهذا الدور السلبي في الإقليم ومنع توسعه من خلال الاعتراف به وإدخاله إلى صلب القرار العربي، وقد ترجم هذا الالتفاف من خلال طرح الرئيس الأسبق للجمهورية محمد خاتمي عام 2006 لمشروع “الشرق الأوسط الإسلامي” في مواجهة المشروع الأميركي لبناء “شرق أوسط جديد”، ومن بعده المشاريع التي عاد الرئيس السابق حسن روحاني لإعادة صياغة المشروع بمفردات جديدة من خلال طرح مشروعه حول “ائتلاف الأمل أو مضيق هرمز للسلام” وأيضاً مشروع تأسيس “منتدى الحوار الإقليمي” والذي يقوم على بناء تحالف وائتلاف يضم إيران إلى جانب دول مجلس التعاون الستة، ويعمل على بناء منظومة أمنية لإدارة شؤون هذه المنطقة ويحمي مصالحها المشتركة. هذا الطموح الإيراني واجه أزمة في تسويق نفسه، نتيجة الانتكاسة التي لحقت بالاتفاق النووي مع السداسية الدولية، خصوصاً محاولة توظيف هذا الاتفاق لتعزيز دوره ونفوذه وموقعه في المعادلات الإقليمية وتكريسها.

وعلى رغم ذلك، ومع التغيير الذي حصل في طبيعة السلطة التنفيذية في الحكومة الإيرانية وعودة منظومة السلطة للسيطرة على كل مفاصل القرار في الدولة والنظام، دفع النظام من خلال دبلوماسيته الانفتاحية على المحيط الحيوي بكل اتجاهاته، لتسويق رؤية جديدة تقوم على معادلة جديدة (6+2) التي تضم دول مجلس التعاون الخليجي إلى جانب إيران ومعها العراق.

معادلة (6+2) لم يكن النظام الإيراني للدفع بها إلى واجهة مفاوضاته مع محيطه الخليجي، لو لم يحصل التطور المفصلي والاستراتيجي في علاقاته مع هذه المحيط، والذي أسسه له اتفاق بكين لاستئناف العلاقات وتطبيعها مع السعودية، والذي نقل العلاقة بين إيران ومحيطها العربي والشرق أوسطي من حالة التصادم إلى حالة من الهدوء الحذر بانتظار اختبار النوايا الإيرانية في الالتزام بما جاء في بنود الاتفاق، خصوصاً احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

السعي الإيراني لتشكيل هذه المنظومة الجديدة بينها وبين دول مجلس التعاون إضافة للعراق، يصب في إطار الجهود الإيرانية لاستيعاب المتحول الجديد الذي فتحته اتفاقية أبراهام لتطبيع العلاقات بين عدد من الدول الخليجية وإسرائيل، من خلال تفريغه من بعده الأمني وما يشكله من مخاوف وقلق لإيران وما قد يحمله من تهديد لاستقرارها الداخلي، وهو ما نجحت في تحقيقه من خلال الاتفاقية الأمنية التي وقعتها مع دولة الإمارات، من دون أي إشارة للمسار التطبيعي الذي تبنته أبوظبي طالما يشكل خياراً إماراتياً وشأناً داخلياً لا يتعارض مع علاقاتها مع إيران ولا يهدد مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية.

الاتفاق مع السعودية عزز الطموحات الإيرانية بإمكانية التوصل إلى بناء هذه المنظومة الإقليمية التي تساعد على تخفيف الوجود الأجنبي وتحديداً الأميركي في الإقليم، ويبعد عنها مصادر الخطر الإسرائيلي الذي سعى لاستغلال حالة القلق والخوف العربي من الطموحات الإيرانية “إيرانوفوبيا” واستخدامها لفرض العزلة على إيران وقطع الطريق على أي تقارب بينه وبين محطيه العربي.

وفضلاً عن الأبعاد الأمنية والسياسية، فإن الطموح الإيراني من هذه المنظومة لها بعد اقتصادي، بحيث يسمح لإيران بأن تكون شريكة في توفير أمن الطاقة والممرات المائية، إضافة إلى تحويل إيران إلى ممر بري لخطوط التجارة البرية بين الجنوب والشمال وبين الشرق والغرب. ويساعد على جذب الاستثمارات العربية والخليجي إلى إيران والتي من المفترض أن تتحول إلى خشبة الإنقاذ لهذا الاقتصادي الذي يعاني تراكم الأزمات نتيجة سنوات من العقوبات القاسية التي فرضت عليه.