كانت نسمات البحر الخفيفة تضفي على أمسيات شرق المتوسط أجواءً ساحرة. وعلى الرغم من أن الأرصاد الجوية كانت تتوقع ريحا شرقية، إلا أن دفئها النسبي في تشرين الأول (أكتوبر)، لم يكن ليدفع الساهرين على ضفاف تل أبيب ويافا وحيفا وعكا الى الانكفاء الى منازلهم سريعا. المتوسطُ بحر لا يُفارق في أمسيات الصمت الرشيق. والأمواج الهادئة تجذب الأنظار إليها حتى بعد أن تنحسر الرؤية في المدى الفسيح.
ـ آلو.. مساء الخير سيدي رئيس الوزراء. هناك وضع غريب في غزة.
ـ ما هو سيادة الجنرال؟
ـ لم يبق أحد في غزة.
ـ ماذا تقول؟ (رفع رئيس الوزراء صوته باستغراب).
ـ كما أقول لك. لم يبق أحد في غزة. الناس اختفوا تماما. فجأة لم يعد يظهر أحد. المنازل نفسها خالية.
ـ لم أفهم. هل ابتلعتهم الأرض؟
ـ أعتقد ذلك سيدي رئيس الوزراء. وهو ما يعني أنهم دخلوا الأنفاق والملاجئ تحت الأرض. وتقديرات الموساد تقول إنهم يحتمون مسبقا من ضرباتنا الجوية الساحقة التي جربوها، كما تذكر، في حرب تشرين الأول (اكتوبر) العام 2023… يبدو أننا أمام معركة مماثلة. نحن مستعدون هذه المرة. ولكن لحظة، ابق معي، سيدي رئيس الورزاء، أرد على هاتف الطوارئ..
انشغل رئيس جهاز الاستخبارات في الرد على هاتفه، وارتفعت الأصوات بغمرة من أسئلة الذهول.
ـ سيدي رئيس الوزراء، مئات الآلاف من المسلحين الفلسطينيين اقتحموا عسقلان ويتقدمون شمالا باتجاه أشدود والرملة، ومئات الآلاف يتقدمون شرقاً وجنوبا نحو بئر السبع، وشمالاً وشرقاً نحو القدس. ظهروا من تحت الأرض، من خلف مواقعنا التي تحيط بغزة. وهم الآن يخوضون حرب شوارع. القتلى في كل مكان. وهناك اشتباكات عنيفة تجري في بعض المواقع، إلا أن الكثرة العددية تجعل وحدات الجيش عاجزة عن الصمود أمام هذا الزحف الكثيف. إنهم يستولون على المدرعات والآليات العسكرية لكي يستخدمونها في تقدمهم.
ـ سوف أدعو الى سلاح الطيران الى القيام بعمليات قصف مكثفة.
ـ ولكن يا سيدي، هل تعني أن نقصف مدننا بكل مَنْ فيها.
ـ لا خيار آخر، يجب أن يتوقف الزحف. وسوف نقوم بتدمير غزة تدميرا شاملا.
ـ ولكن لم يبق أحد في غزة أصلا. انهم يزحفون على مدن إسرائيل باتجاه القدس. وشمالا باتجاه تل أبيب. يبدو إنها استعارة مضادة يا سيدي لنظرية “الحرب على أرض الآخرين”.
ـ سوف نلقي قنبلة نووية على غزة.
ـ سيدي، هل تسمعني. دعني أكرر لك: لم يبق أحد في غزة. والريح تتجه شرقا. سوف يُباد الجميع. لن ننجو نحن هنا في القدس من العاصفة. انهم يحتلون منازل الاسرائيليين في الطريق. الجثث تملأ الشوارع. الكثير من جثثهم، والكثير من جثث مواطنينا.
أكثر من مليون مسلح خرجوا من تحت الأنفاق. معظهم من الشباب الذين كانوا أطفالا عندما اندلعت الحرب في اكتوبر العام 2023. بعضهم دخل الأنفاق منذ عدة سنوات، ولم يخرج. لم تتمكن الطائرات من إبادتهم في ذلك الوقت. ووُلد من بعدهم الكثير. عاشوا على صور قتلى تلك الحرب. معظمهم قرر ألا يذهب الى المدرسة. كانوا يتلقون تعليما أوليا، تحت الأرض، ولكن معظم التعليم كان تدريبا عسكريا وعلى فنون القتال المتنوعة.
نحو مليون مهاجم آخر انطلقوا من مدن الضفة الغربية. هاجموا المستوطنات لكي يحصلوا منها على الأسلحة. قطعوا الطرق واستولوا على العربات العسكرية، وهاجموا مراكز “جيش الدفاع”. الطائرات التي تحوم حول المواقع العسكرية، تقصف بكثافة، ولكنها لا تعرف مَنْ الذين تقصفهم. حصل شيء من هذا القبيل في العام 2023. جنود اسرائيليون بالمئات سقطوا بالقصف، حتى من قبل أن يصل إليهم المهاجمون. ولكن الحشود ظلت تتكاثف. شبان وشابات هذه المرة. والأسلحة تتوفر للمزيد ممن بدأوا الهجوم وهم عزّل. الجنرال الذي تُرك في الضفة الغربية تيبس على كرسيه، وحل محله نموذج من “التزييف العميق” لكي يلقي الخطابات نفسها التي ألقاها سبعين مرة من قبل. ولكن سلطته انهارت، مع بدء الهجوم.
لم يبق في طريق المهاجمين موقع لم تندلع فيه النيران. وصار إطلاق النار عشوائيا على نحو لم تشهده أي حرب من قبل. وسوى وجهة الركض، لم يكن من الممكن، تحت سطوة ذلك الليل، معرفة مَنْ يقاتل مَنْ، ومَنْ يطلق النار على مَنْ. والطائرات تلقي حممها، وتعود لتلقيها من جديد، على كتل جديدة من البشر في المكان نفسه الذي قصفته من قبل.
أسبوع مر، والمعارك لم تهدأ. البوارج الحربية الأمريكية التي وصلت الى الساحل لم تعرف ماذا تفعل. نزل منها الآلاف من جنود المارينز، إلا انهم ضاعوا في زحمة المتقاتلين. غرقوا بالفوضى، ولم يعد منهم أحد. هناك اتصالات، ولكنها وسط الصخب الهائل، ما كانت لتفضي الى تصور واضح.
اجتمع مجلس الأمن الدولي، وطلب المندوب الإسرائيلي، وهو يرتدي شارة معسكرات الاعتقال النازية، حماية إسرائيل من هجوم قال إن تنظيما إرهابيا هو الذي يقف وراءه.
وقال بعض المندوبين الأوروبيين، أن حزب “سفر أشعياء” الذي يتولى السلطة في إسرائيل فشل في حماية “أبناء النور”، وإن من واجب “المجتمع الدولي” أن يهب لنجدة إسرائيل من هجوم “أبناء الظلام”. ولكن السؤال الذي ظل عالقا في الأذهان، وسط الفوضى العارمة، هو كيف نفعل ذلك.
الرئيس الأمريكي وجه دعوة لوقف إطلاق النار، ووعد ببدء مفاوضات جديدة لتنفيذ “حل الدولتين” على الفور، وأقسم بشرفه وشرف الرؤساء من قبله أن ذلك سوف يحدث بالفعل هذه المرة. إلا أن الأحداث أصمّت آذان الجميع عن الإصغاء لأي شيء. كان الوقت قد فات.
اختضب البحر بلون الدماء. إلا أن نسمات الريح الخفيفة، لم تسرق شيئاً من عبق الأمسيات الرشيقة، وتحوّل الصمتُ الى ضجيج مكتوم. ولم تلاحظ الأمواجُ الهادئة للمتوسط أن الساهرين غادروا الرمال الدافئة. ولم يبق أحدٌ ليغازل المدى الفسيح.