النظام العالمي الحالي نظام انتقالي. وما يجري الآن هو تحول من عالم القطب الواحد (ظهر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفككك المعسكر السوفياتي) إلى عالم متعدد الأقطاب. أعمدة العالم متعدد الأقطاب تظهر بشكل جلي، هذه روسيا، والصين، والعالم الإسلامي، والهند، وعلى الطريق أفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي الحقيقة هذه حضارات مستقلة، الأساسية منها ممثلة في مجموعة “بريكس” التي توحد كل هذه الحضارات خصوصا بعد قمة جوهانسبرغ 2023، وتوجيه الدعوة لانضمام المملكة العربية السعودية وإيران ومصر التي تمثل حضورا لدول رئيسة في العالم الإسلامي، وإثيوبيا التي تعزز العامل الأفريقي، والأرجنتين التي تكمل نواة دول أميركا الجنوبية. من هنا نرى أن العالم المتعدد الأقطاب يعزز موقفه كل يوم، وأن الهيمنة الغربية آخذة في الضع
استماتة أميركية- غربية لبقاء الأحادية
مع ذلك، فإن القيادة الغربية للعالم، وقبل كل شيء قيادة الولايات المتحدة الأميركية، تسعى إلى الحفاظ على الأحادية القطبية بأي ثمن، كما تصر على هيمنتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والآيديولوجية الشاملة. هذا هو التناقض الرئيس الذي يحدث في عصرنا ويكمن هنا في تصاعد المواجهة بين الأحادية القطبية والتعددية القطبية.
وفي هذا المسار ينبغي النظر في الصراعات والإجراءت الرئيسة للسياسة العالمية، تحديدا السعي نحو إضعاف روسيا التي تؤكد نفسها وسيادتها وحضورها من جديد كقطب مستقل، ما يفسر الصراع الدائر في أوكرانيا. العالم الغربي يدعم نظام (الرئيس الأوكراني) فولوديمير زيلينسكي، فقط بهدف منع روسيا من العودة إلى الساحة العالمية كلاعب مستقل، وهذه هي السياسة التي يتبعها الرئيس فلاديمير بوتين طوال فترة وجوده في سدة الحكم، وبدأ بتعزيز السيادة السياسية للاتحاد الروسي، ووصل بالتدريج إلى التأكيد على أن روسيا حضارة مستقلة، تناهض ليس فقط الهيمنة الغربية، وإنما تناهض أيضا نظام قيمه. لقد أوضحت روسيا إيمانها بالقيم التقليدية وولاءها لها، ورفضت بحزم الليبرالية الغربية، وأجندة المثليين وغيرهما من معايير الآيديولوجيا الغربية والتي تعتبرها روسيا ضربا من الشذوذ والانحراف.
وردا من الغرب على ذلك، قام بدعم الانقلاب في كييف عام 2014، وقام بتسليح أوكرانيا إلى آخر حد ممكن، كما أنه ساعد على نشر آيديولوجية النازيين الجدد داخلها، وقام باستفزاز روسيا من أجل أن تقوم بالعملية العسكرية الخاصة والتي إن لم يكن بدأها بوتين لكانت كييف هي من بدأت بها. بالتالي فتحت في أوكرانيا الجبهة الأولى لحرب التعددية القطبية حامية الوطيس في مواجهة الأحادية القطبية.
وفي الوقت ذاته، فإن روسيا في عهد بوتين، تعي بشكل جيد جدا أنها لا تستطيع أن تكون أحد قطبين، كما كان عليه الحال في زمن الاتحاد السوفياتي؛ فالحضارات الجديدة الصينية، والإسلامية، والهندية، والأفريقية، والأميركية اللاتينية، تنهض رؤوسها، وترى روسيا فيهم حلفاء وشركاء في التعددية القطبية الحقيقية والمتساوية، هذا ما لم يعترف به بقية العالم حتى الآن، ومع ذلك نشهد أن إدراك التعددية القطبية ينمو ويتعزز بشكل تدريجي، أيضا هذا يخص قضية تايوان وتنطبق عليها هذه المعضلة والتي كادت أن تصبح خط المواجهة التالي بين الأحادية القطبية والتعددية القطبية، ولكن هذه المرة في منطقة المحيط الهادئ.
جبهة مختلفة بعد هجوم “حماس” والإبادة
الأحداث في إسرائيل وقطاع غزة ترتبط بشكل مباشر مع هذا الأمر، هناك وقعت كارثتان، واحدة تلو الأخرى، الأولى تمثلت في هجوم “حماس” على إسرائيل، ما أسفر عن سقوط كثير من الضحايا المدنيين، واحتجاز الرهائن، والثانية تمثلت في ضربات الرد الانتقامية الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي كانت أضعافا مضاعفة من حيث القسوة، وعدد الضحايا من المدنيين، وفي مقدمتهم النساء والأطفال. وكلتاهما انتهاك صارخ لحقوق البشر الطبيعية، وجرائم ضد الإنسانية، من دون أي مبرر.
لكن في الوقت ذاته، تطبيق إسرائيل لمبادئ “ليكس تاليونيس” (مبدأ تطور في بداية القانون البابلي وينص على ضرورة أن يتلقى المجرمون عقابا مشابها للإصابات والأضرار التي سببوها لضحاياهم) أدى إلى إبادة جماعية حقيقية لسكان قطاع غزة، المجبرين فعليا على العيش في ظروف وحشية في معسكر اعتقال. لقد ارتكبت “حماس” عملا إرهابيا، وردت إسرائيل على هذا الفعل بارتكاب جريمة إبادة جماعية واسعة النطاق. والطرفان وضعا نفسيهما خارج إطار القانون والأساليب الإنسانية المقبولة لحل التناقضات السياسية. بعد ذلك تبدأ حالة الجيوبوليتيك، ومع أن حجم الجريمة الإسرائيلية أكبر بكثير، إلا أن تقييم ما يحدث في قطاع غزة لا يعتمد على ذلك، بل على أنماط جيوسياسية أعمق.
لكن الأحداث في إسرائيل؛ هجوم “حماس” والإبادة الجماعية الانتقامية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين، فتحت جبهة مختلفة. وهذه المرة، من خلال التحيز غير المشروط وأحادي الجانب (تماما كما حدث في أوكرانيا) دعما لإسرائيل، وعلى الرغم من الطبيعة الصارخة للجرائم المرتكبة ضد السكان المدنيين في قطاع غزة، دخل الغرب مرحلة المواجهة مع العالم الإسلامي برمته. وهنا برز إلى الواجهة قطب آخر، وهو القطب الإسلامي في وجه ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة وفي بقية الأراضي الفلسطينية مع الأخذ في الاعتبار الإجراءات والمظالم غير العادلة بحق السكان الفلسطينيين والذين تم طردهم من الأحياء اليهودية للعيش في المناطق الفقيرة والمعزولة على أرضهم.
العالم الإسلامي لا يمكن له إلا أن يدرك وحدته، والقضية الفلسطينية وحدت اليوم السنة والشيعة والأتراك والإيرانيين، وأيضا الأطراف المتنازعة في الصراعات الداخلية في اليمن، وسوريا، والعراق، وليبيا، وهذه القضية تعني بشكل مباشر باكستان، وإندونيسيا، وماليزيا، وبنغلاديش. كما أنه لا يمكن أن يبقى المسلمون الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا أو روسيا أو أفريقيا غير مبالين، وبالطبع فإن الفلسطينيين اليوم في غزة وفي الضفة الغربية ومنطقة ضفاف نهر الأردن، وعلى الرغم من خلافاتهم السياسية، متحدون في معركة الدفاع عن كرامتهم.
قضية فلسطين وأميركا
لقد استطاعت الولايات المتحدة الأميركية خلال العقود الأخيرة أن تبعد المسلمين عن الالتفاف حول القضية الفلسطينية لحثهم على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولكن كل هذه السياسة ضاعت وأضحت خلال الأسابيع الماضية هباء منثورا. كما أن الدعم الذي يقدم لإسرائيل لا لبس فيه، حتى بعد كل ما فعلته في قطاع غزة أمام أعين كل البشرية، ما يدفع العالم الإسلامي إلى أن يتغلب على كل التناقضات الداخلية ليتجه نحو الدخول في مواجهة مباشرة مع الغرب.
إسرائيل شأنها شأن أوكرانيا؛ ما هي إلا وكيل للهيمنة الغربية المتغطرسة والقاسية، لا تزدري أية أعمال إجرامية أو أقوال وأفعال عنصرية، ولكن المشكلة لا تكمن فيها، كونها لا تعدو سوى أدوات جيوسياسية، في عالم القطب الواحد، وهذا بالضبط ما تحدث عنه وأوضحه منذ وقت قريب الرئيس فلاديمير بوتين، عندما تحدث عن العناكب التي تحيك شبكة عالمية من العداء والصراعات، حينها قصد حرفيا دعاة العولمة والتكتيكات الاستعمارية التي تمارس على أساس مبدأ “فرق تسد”، ولكن عندما نفهم جوهر استراتيجية أولئك الذين يحاولون بيأس وفي عذاب إنقاذ العالم الأحادي القطب والهيمنة الغربية، فيمكننا بوعي أن نبني نموذجا بديلا لمواجهته والسير بثقة وبشكل مشترك نحو بناء عالم متعدد الأقطاب.
الصراع الدائر في قطاع غزة وفي فلسطين ككل يمثل تحديا مباشرا موجها للعالم الإسلامي عن بكرة أبيه، والحضارة الإسلامية نفسها في العموم، وليس لشعب ما بعينه وليس جميع العرب فحسب، في الحقيقة الغرب دخل في حرب مع الإسلام بحد ذاته، وهذا الواقع بات الجميع يدركه، بدءا من السعودية وتركيا وإيران وباكستان، ومن تونس حتى البحرين، من السلفيين وصولا إلى أهل السنة والصوفيين. الخصوم السياسيون في فلسطين نفسها، في سوريا، ليبيا، لبنان، الشيعة والسنة يجب عليهم الآن أن يدافعوا عن كرامتهم ويؤكدوا أن الحضارة الإسلامية هي حضارة صاحبة سيادة ومستقلة لا تسمح بأن يتم التعامل معها بهذا الشكل. أردوغان هدد الغرب بالجهاد، مذكرا بالحملات الصليبية، وهذه مقارنة غير موفقة أبدا. عولمة الغرب الحديث لا تملك أي شيء مشترك مع الحضارة المسيحية، منذ زمن بعيد قطع الغرب أي اتصالات مع الثقافة المسيحية، وانحاز إلى الجوانب المادية والإلحادية والفردية.
المسيحية لا يربط بينها وبين العلوم المادية أي رابط، أو بينها وبين النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم على الربح المجرد، مع قوننة الانحراف واعتماد علم الأمراض كقاعدة، مع الاستعداد للانتقال إلى وجود ما بعد الإنسان وهو ما يكتب عنه بالمناسبة بحماسة فيلسوف ما بعد الإنسانية، الإسرائيلي يوفال هراري. الغرب هو ظاهرة مناهضة للمسيحية ولا يحمل معه أي صليب ولا يعتنقه، إسرائيل دولة يهودية وعلمانية غربية. وناهيك عن كونها دولة غربية فهي لا تملك أي شيء مشترك مع المسيحية. ومن هنا ندرك أنه عندما يتصادم العالم الإسلامي مع العالم الغربي، فهذا لا يعني أنه في حالة صدام مع حضارة المسيح، وإنما حضارة مناهضة للمسيح، حضارة المسيح الدجال.
روسيا كقطب باتت فعليا في حرب مع الغرب على الأرض الأوكرانية، والكثير من الدول الإسلامية الواقعة تحت تأثير البروباغندا الغربية لم يفهم بشكل واضح أسباب وأهداف وحتى طبيعة هذه الحرب، معتقدين أن الحديث يدور حول صراع إقليمي، هناك عدد غير قليل من هذه في العالم الإسلامي نفسه، لكن الآن عندما أثرت العولمة بشكل مباشر على كل مسلمي العالم، فإن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا سيكون لها معنى مختلف تماما، ففي نهاية المطاف، هذا صراع بين عالم متعدد الأقطاب وعالم أحادي القطب. ما يعني أن هذه الحرب لا تجري فقط لمصلحة روسيا فحسب كقطب، وإن بشكل غير مباشر- أو حتى بشكل مباشر- فهي لمصلحة جميع الأقطاب. وأفضل من يفهم هذا هي الصين، وكذلك من بين الدول الإسلامية، إيران.
ولكن تجدر الإشارة إلى أنه في الآونة الأخيرة شهد الوعي الجيوسياسي في المجتمعات الإسلامية الأخرى نموا متسارعا، في المملكة العربية السعودية، في مصر، في تركيا، في باكستان، في إندونيسيا، ومن هنا تأتي محاولات التقارب بين المملكة العربية السعودية وإيران والسياسة السيادية لتركيا. كلما أدرك العالم الإسلامي نفسه باعتباره قطبا وحضارة موحدة، أضحى السلوك الروسي أكثر وضوحا وقابلية للفهم. بوتين بالفعل كزعيم مشهور يتمتع بشعبية كبيرة في العالم وبخاصة في الدول غير الغربية، هذا يجعل استراتيجيته تكسب معنى دقيقا ومبررا واضحا تماما، إن روسيا فعلا تحارب الأحادية القطبية بكل ما تملك من قوة، بمعنى أنها تكافح ضد العولمة والغرب، ونرى الغرب اليوم ومعه وكيله الإسرائيلي يقوم بمهاجمة العالم الإسلامي ويعرض العرب الفلسطينيين للإبادة الجماعية.
هذا يعني أن لحظة الإسلام آتية وفي خضم هذه الحرب بين المسلمين والهيمنة الغربية التي يمكن أن تندلع في أي لحظة. من معرفتي بالإسرائيليين لا يوجد أي شك في أنهم لن يتوقفوا إلا بعد القضاء على الفلسطينيين.
تبدو الحرب الآن بالفعل شاملة على نطاق واسع، في هذه الحال وقبل كل شيء العالم الإسلامي لديه حلفاء موضوعيون، مثل روسيا، وكذلك الصين، التي يتعين عليها خلال فترة وجيزة حل مشكلة تايون بنفسها. على الأرجح ستفتح جبهات أخرى بشكل تدريجي.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن أن يؤدي هذا إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة؟ على الأرجح نعم. وبمعنى ما آخر، هي الآن قائمة بالفعل. ولكي تصبح الحرب حربا عالمية، فإنه من الضروري، أولا وقبل كل شيء، أن تكون هناك كتلة حرجة من التناقضات المتراكمة التي لا يمكن حلها بأي طريقة أخرى غير العسكرية. لقد تم استيفاء هذا الشرط. الغرب لا ينوي أن يتخلى عن هيمنته بشكل طوعي، والأقطاب الجديدة، الحضارات المستقلة الصاعدة، والمساحات الشاسعة، لم تعد ترغب في قبول هذه الهيمنة والتسامح معها. زد على ذلك، لقد ثبت عجز الولايات المتحدة الأميركية والغرب الجماعي التام عن أن يكونوا قادة للإنسانية من دون التخلي عن السياسات التي تحرض وتؤجج حروبا وصراعات جديدة ومتجددة. الحرب التي لا يمكن تفاديها يتعين الفوز فيها.
وفي النهاية، ما الدور الذي يلعبه (الرئيس الأميركي السابق) دونالد ترمب في هذه المواجهات المتصاعدة بين الإسلام والغرب؟ إن الرئيس جو بايدن مناصر ملتزم للعولمة ويعادي روسيا بشدة، ومؤيد متطرف للأحادية القطبية وهذا بالضبط ما يفسر دعمه الكبير والمستمر للنظام النازي الجديد في كييف، والتبرئة الكاملة لأفعال إسرائيل بما فيها الإبادة الجماعية المباشرة. أما بالنسبة لموقف ترمب فهو أكثر تمايزا؛ هو قومي كلاسيكي، وبالنسبة له مصالح الولايات المتحدة الأميركية كدولة هي الأهم وتأتي بالدرجة الأولى وليس الخطط سريعة الزوال من أجل السيطرة والهيمنة على العالم. بخصوص العلاقة مع روسيا ترمب غير مبال بها، الذي يشغل باله أكثر قضايا المنافسة التجارية والاقتصادية مع الصين، ولكنه في الوقت ذاته يخضع ويقع بالمطلق تحت التأثير الكامل للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة نفسها .
لذلك، فإن الحرب الوشيكة بين الغرب والإسلام، لا ينبغي أن ينتظر فيها التراخي من جانب الغرب، ومن جانب الجمهوريين بشكل عام. وفي هذا السياق، في حال كان وصول ترمب إلى سدة الرئاسة قد يؤدي إلى إضعاف الدعم لأوكرانيا (وهذا أمر مهم للغاية بالنسبة لروسيا)، إلا أنه سوف يتبع سياسة صارمة تجاه المسلمين وتجاه الفلسطينيين على وجه الخصوص، وربما تكون أكثر صرامة من سياسة بايدن، لذلك يجب أن نكون واقعيين ونعول على حرب صعبة جدية وطويلة الأمد.
من المهم أن ندرك أن هذا ليس صراعا دينيا، بل هذه هي حرب الدجال المادي الملحد ضد جميع الأديان التقليدية، ما يعني أنه من الممكن أن يكون قد آن أوان المعركة الأخيرة.
هل يتصاعد هذا الصراع الذي يلوح في الأفق نحو حرب نووية؟ لا يمكن استبعاد هذا الأمر، تحديدا الذهاب نحو استخدام الأسلحة النووية التكتيكية. من غير المرجح أن تستخدمها تلك الدول التي تمتلك أسلحة نووية استراتيجية (روسيا ودول “الناتو”). حرفيا سيكون استخدام الأسلحة النووية بمثابة تدمير للبشرية جمعاء. ولكن بما أن إسرائيل وباكستان، وربما إيران، تمتلك أسلحة نووية، فلن يكون من المستبعد استخدامها محليا.
إذا تمكن المسلمون من الاتحاد في وجه عدو شرس مشترك، هنا سوف يظهر قطب إسلامي مكتمل
كيف سيكون شكل النظام العالمي خلال هذه المواجهة الوشيكة؟ لا توجد إجابة جاهزة هنا. والأمر الوحيد المستبعد بالتأكيد هو إنشاء نظام عالمي متماسك قوي ومستقر وأحادي القطب، وهذا هو النظام الذي يتمسك به أنصار العولمة بشدة. وفي كافة الأحوال وتحت أي ظرف من الظروف فإن العالم لن يكون أحادي القطب، فهو إما أن يكون متعدد الأقطاب وإما لن يكون موجودا على الإطلاق. وكلما تزايد إصرار الغرب على الحفاظ على هيمنته، أصبحت المعركة أكثر ضراوة، وصولا إلى الحرب العالمية الثالثة.
التعددية القطبية لن تحدث من تلقاء نفسها، والآن هناك عملية إعادة تجميع مهمة للعالم الإسلامي. وإذا تمكن المسلمون من الاتحاد في وجه عدو شرس مشترك، هنا سيظهر قطب إسلامي مكتمل. وفي رأيي أن عودة بغداد ومركزها في العراق ستكون الحل الأمثل؛ إذ تتقاطع في العراق جميع الخطوط الرئيسة للحضارة الإسلامية (العرب والسنة والشيعة والصوفيون والسلفيون والأكراد الهندو-أوروبيون والأتراك). وفي بغداد تحديدا ازدهرت العلوم والمدارس الشرعية والفلسفة والحركات الروحية، لكن هذه مجرد فرضية، على الرغم من أن العالم الإسلامي سيحتاج بالتأكيد إلى نوع من الأساس أو الأرضية المشتركة، بغداد منصة، نقطة التوازن. ولكن من أجل هذا، بالطبع، يجب أولا تحرير العراق من الوجود الأميركي.
يبدو أن كل قطب يجب أن يثبت حقه في الوجود من خلال الصراع. ستصبح روسيا قطبا كامل السيادة بعد فوزها في أوكرانيا. الصين بعد أن تحل قضية تايوان. العالم الإسلامي يصر على الحل العادل للقضية الفلسطينية.
لن يقف الأمر عند هذا الحد، فيما بعد سيأتي دور الهند، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، التي تواجه حاليا بشكل متزايد قوى الاستعمار الجديد. وبالتالي فإن جميع أقطاب العالم متعدد الأقطاب ستضطر إلى اجتياز الامتحان الخاص بها.
بعد ذلك، سنعود بشكل جزئي إلى النظام العالمي ما قبل كريستوفر كولومبوس، حيث- بالإضافة إلى أوروبا الغربية- تعايشت إمبراطوريات كثيرة: الصينية، الهندية، الروسية، العثمانية، الفارسية، بالإضافة إلى الدول القوية المستقلة في جنوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وحتى أوقيانوسيا كانت لها أنظمتها السياسية والاجتماعية الخاصة بها، والتي ساوى المستعمرون الأوروبيون فيما بعد بينها وبين الوحشية والبربرية، ومن هنا فإن التعددية القطبية ممكنة تماما، هكذا كانت الإنسانية قبل بداية السياسة الإمبريالية الكوكبية للغرب في العصر الحديث.
هذا لا يعني أن السلام سوف يترسخ على الفور في العالم، ولكن مثل هذا النظام العالمي المتعدد الأقطاب سوف يكون في كل الأحوال أكثر عدالة وتوازنا، وسيتم حل كافة الصراعات على أساس موقف متوازن ومشترك حيث ستكون الإنسانية بمأمن ومصانة من تجاوزات العنصرية كما حدث في ألمانيا الهتلرية، أو في إسرائيل الحديثة، أو في الهيمنة العدوانية للغرب المعولم.
* ترجمة وتنسيق راميا يحيى