بات واضحًا أنّ الحكومة الإسرائيليّة رمت خلفها الضغوط التي تعرّضت لها من داخلها وخارجها، من أجل “استغلال الفرصة” وتوجيه ضربة قويّة إلى “حزب الله” على امتداد لبنان، ولكنّ ما يبقى غامضًا، بالنسبة لإسرائيل ومعها الدول التي لا تريد توسيع رقعة الحرب في المنطقة، يتمحور حول قدرة “حزب الله”، بصفته أبرز فصيل في “محور المقاومة”، على البقاء “منضبطًا”، إذا تبيّن أنّ الحرب ضد قطاع غزّة ستُمكّن الجيش الإسرائيلي من أن يطوي، فعلًا، صفحة “كتائب الشهيد عز الدين القسام”، الجناح العسكري لـ”حركة حماس”!
ولا ينبع هذا التساؤل من عدم، بل يجد منطلقه في أنّ “محور المقاومة” ككل سوف يخرج مهزومًا، ماديًّا ومعنويًّا، إذا نجحت إسرائيل في تصفية “حركة حماس” في أبرز معاقلها على الإطلاق، في مقابل حصد “محور التطبيع” انتصارًا كبيرًا، بحيث تظهر “براغماتيّته” في التعامل مع إسرائيل، عاقلة ومربحة وهادفة!
ولن تُجدي نفعًا التهجمات المنبرية التي تتولّاها قوى “محور المقاومة” ضد الدول العربيّة المناقضة لها، لأنّ الرأي العام، في حالة هزيمة “حماس”، سوف يتلمّس، لمرة واحدة وأخيرة، أنّ استدعاء الحروب ليس أكثر من استدعاء للهزائم والدمار والمجازر والخسائر!
وعليه، فإنّ قدرة “محور المقاومة” على الاستمرار في وجود منتج، بحيث يفرض نفسه معادلة وازنة في المنطقة، تستدعي منه إمّا منع هزيمة “حماس” أو تسجيل انتصار “موازٍ”، مهما كانت كلفته، يُخفف بواسطته من تداعيات الهزيمة، إذا تحققت!
وهنا تحديدًا، يجد الخوف من توسيع “حزب الله” لمدى الحرب مع إسرائيل منطلقه، إذ إنّه التنظيم الوحيد في “محور المقاومة” القادر، وفق اعتقاده، على الخروج من الحرب رافعًا شارة النصر، لأنّ الجيش الإسرائيلي لن يتعامل معه كما يتعامل مع “حركة حماس”، إذ إنّ هذا الحزب، بالمحصلة، قد يكون خطرًا أمنيًّا وحدوديًّا، ولكنّه ليس خطرًا مصيريًّا ووجوديًّا!
وفي هذه الحالة، ومن أجل التغطية على الهزيمة بقطاع غزّة بانتصار في لبنان، سوف يجد “حزب الله” نفسه مضطرًّا على خوض حرب من دون أن يُعير كبير اهتمام بالكلفة البشريّة والمادية، فمصلحة “محور المقاومة” تتقدّم على أيّ مصلحة أخرى.
وعليه، تبذل الولايات المتحدة الأميركية جهدها لثني “حزب الله” وخلفه “الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران” عن هذه الخطة، من خلال تأكيدها أنّ “حساب الحقل لن يتطابق مع حساب البيد”، فكما أخطأت “حركة حماس” في التحليل الذي شجعها على القيام بهجوم السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) على غلاف غزّة، كذلك يُخطئ “حزب الله” في تحليل المدى الذي يمكن أن تذهب إليه إسرائيل مدعومة من حلفائها، ليس إذا قرر توسيع مدى الحرب فحسب، بل استمرّ في التمسك بإشعال الحرب الحدوديّة، أيضًا.
وفي مضمون الرسائل الأميركيّة أنّ “حزب الله” في ما يُقدم عليه في الجنوب اللبناني، لا يُشغل الجيش الإسرائيلي عن حربه في قطاع غزّة، ولو بمقدار “حبّة خردل”، كما يقول، إذ إنّ ما أدخله هذا الجيش من قوات إلى العمليات البريّة حتى تاريخه وتمكنت من تطويق قطاع غزة والقيام بعمليات داخل مدينة غزّة، لا تُشكل إلّا جزءًا يسيرًا من القوات التي رصدها للمعركة البريّة المصمّمة أساسًا، كما أنّ قوة النار التي يملكها الجيش الإسرائيلي، لن تتأثّر بتعدد الجبهات، لأنّ الاتفاقات المعقودة بينه وبين عدد من الدول تتقدمها الولايات المتحدة الأميركية توفّر له، فورًا، ما يمكن أن ينقصه، إذا اضطر إلى خوض حرب يتم تصنيفها في خانة “الدفاعيّة”.
وفي مضمون الرسائل التي يوصلها الأميركيّون إلى “حزب الله”، وكان آخرهم الموفد الرئاسي آموس هوكشتاين، أنّ توسيع هذا الحزب لمدى الحرب ضد إسرائيل لن يُنتج، بالمحصلة، سوى مزيد من الخسائر على “محور المقاومة” وعلى الدول التي يتحكم بقرارها.
ولكن هل تؤثّر هذه النوعيّة من الرسائل على قرار “حزب الله”؟
التجارب الماضية تحمل أجوبة سلبية عن هذا السؤال، إذ إنّ “حزب الله” لا يفكر بالخسائر المباشرة بل بالخسائر غير المباشرة، فهو إن انهزمت “حركة حماس” في قطاع غزة، انهزم معها، إذا لم يُغطِ على مفاعيل الهزيمة بحرب أخرى، إذ إنّ معركته الحقيقيّة حاليًا ليست ضد إسرائيل بل ضد “محور التطبيع”، ولذلك فهو يستحيل أن يرضى بهذه النتيجة بل عليه أن ينقلب عليها، بحيث يفسح المجال أمام “حركة حماس” للانتصار على نتيجة غزّة، بالسماح لها بأن تواصل معركتها بدعمه انطلاقًا من لبنان، للقول إنّ إسرائيل فشلت في تحقيق هدفها في غزّة.
إنّ الإشكاليّة الصخمة التي يحاول الجميع تفكيكها، في الوقت الحاضر، تتمحور حول نقطة واحدة: إذا خُيّر “حزب الله” بين الهزيمة والفوضى، فماذا يفضل؟
ثمّة من يقول إنّه حزب عقلاني وبالتالي لا مصلحة له بالفوضى، ولكن يصعب على البعض، ممّن كوتهم التجارب، تصديق ذلك!