لن تضيء شعلة الأولمبياد شغف الرياضيين وهم يركلون الكرة أو يسبحون ويقفزون ويركضون ويرقصون فحسب، وإنما ستضيء أيضا أمكنة باريس المدهشة في جمالياتها وناسها المتعدّدين في ثقافاتهم وحيواتهم.

فالألعاب التي ستجرى في نهر السين وبالقرب منه، سيحيط بها تاريخ هذه المدينة وفنونها، حيث سيشعر الزائر أنه وسط حفلة أو عيد، وهي فنون سيجدها في الأغاني والرقصات والمعارض التي تملأ الشوارع وفي المتاحف والعمارات المدهشة المحاكية لفن الباروك والحديث وما بعد الحديث، حيث لن يشاهد الزائرون التكعيبية، مثلا، في متحف بيكاسو، بل سيشاهدونها مجسّدة في بعض عمارات المدينة.

في “متحف أورسيه” سيجد عشّاق التشكيل والضوء واللون لوحات كلود مونيه وسيزان ورينوار وبيسارو وفان غوغ وديغا وغوغان، ولكل لوحة قصة خاصّة مع رسّامها. وإذا أرادوا أن يلقوا نظرة على موناليزا دافينشي فعليهم أن يبقوا في طابور طويل قبل أن يصلوا إليها وإلى كنوز متحف اللوفر.

 

باريس هي مدينة الفكر والمسرح والأوبرا، كما هي مقصد اللصوص وأحلامهم بالكسب الخاطف والسريع

في القرب أيضا هناك عشرات الحدائق والمتنزهات مثل غابة بولونيا وفرساي ولوكسمبورغ، وهذه الأخيرة في قلب باريس، وفيها منحوتات ملكات فرنسا ومجسّمات فنية، أوردها أدباء في مذكراتهم ورواياتهم، ليس أولهم راينر ماريا ريلكه ولا آخرهم ميلان كونديرا الذي أشار إلى إحدى منحوتاتها في روايته “حفلة التفاهة”، والتي بدت حفلة من حفلات باريس، المشكّلة في مجملها حفلة أو عيدا يوميا صار ملتصقا باسمها، حسب توصيف همنغواي، الذي سيجد الزائر اسمه على جدار أسفل عمارة مع معلومة تقول إنّه عاش فيها، كما عاش بالقرب منه جيمس جويس.

مدينة بلزاك وفلوبير ومارسيل بروست التي استقر فيها غبريال غارثيا ماركيز وهنري ميلر وبول أوستر فترات من حياتهم، هي أيضا مدينة الفكر والمسرح والأوبرا، كما هي مقصد اللصوص وأحلامهم بالكسب الخاطف والسريع، مدينة المشرّدين الذين أتوا من مختلف جهات الأرض، المختفين عن عيون زوّار باريس طوال الأولمبياد لأن خطة البلدية تقضي بأن يذهبوا إلى أماكن مجاورة مؤقتا.

قد تمضي خطى الزائر إلى مقهى سيقال له إن نابوليون بونابرت سبقه إليه قبل أكثر من مئتي سنة، وقد يشرب قهوته، أو نبيذه، في زاوية مقهى كان يجلس فيه سارتر وسيمون دو بوفوار.

وإذا أراد زيارة قبور الموتى ليلقي التحيّة على أمجادهم ففي مقبرة العظماء “بانتيون” سيجد جثامين عشرات العظماء ومنهم فيكتور هوغو وإميل زولا وأندره مارلو وألكسندر دوما وماري كوري ولويس بريل، وهناك مقابر أخرى فيها أعلام تزار كلّ يوم وتوضع على قبورها الزهور، بل والقبلات أحيانا، فقد ترى أحمر الشفاه مطبوعا على قبر أوسكار وايلد في مقبرة “بير لاشيز” التي يرقد فيها الخالدون موليير وبلزاك ومارسيل بروست وميغال أستورياس وغيوم أبولينير وبول إيلوار وشوبان وجورج بيزيه وإديث بياث، أمّا إذا أراد زيارة الموتى البسطاء أو الناس العاديين فيمكنه النزول إلى تحت الأرض، حيث باريس القديمة، إذ سيجد هناك سراديب رُصّت فيها جماجم موتى، في غرف متعرّجة تشبه الشوارع أو الأزقة.

كلّ هذا اللغط لا يذكر أمام أهمّية الحدث ومكانته العالمية في مدينة العالم التي تحوي مئات اللغات واللهجات والثقافات علي المقري

وفي بيوت ومتاحف الأدباء والفنانين مثل فيكتور هوغو ورودان ورينوار وفان غوغ وبيكاسو وسلفادور دالي وأراغون وتيدرو وجان جاك روسو وكوكتو، سيسمع الكثير من قصص الحب والفقر والألم.

هكذا، لا يمكن للذاهب إلى باريس في أيّام معدودة أن يقول إنّه زار هذه المدينة المكتظة بكلّ ما هو جميل ومفاجئ، فهناك أمكنة تحتاج زيارتها من نصف يوم إلى يوم كامل كغابة بولونيا أو متحف اللوفر. ناهيك عن التجوال في شوارع الحي اللاتيني وسان جرمان والشانزليزيه وبرج إيفل وقوس النصر وساحة الجمهورية ومونبارناس ونونتردام وأوديون حيث عاش توفيق الحكيم وتعلّم بالقرب منه طه حسين في جامعة السوربون.

لقد تخلّل الإعداد للأولمبياد بعض اللغط أو الضجيج حول الأمن والتطرف والإرهاب ومدى صحّة مياه السين للسباحة أو اقفال بعض الشوارع وتضرّر بعض المحلات، إلا أنّ كلّ هذا اللغط لا يذكر أمام أهمّية الحدث ومكانته العالمية في مدينة العالم التي تحوي مئات اللغات واللهجات والثقافات، والتي تبرهن كلّ يوم أنها عصيّة أمام موجة التطرف غير المتسامحة، سواء جاءت من داخل المدن المجاورة أو من الخارج. فباريس ستبقى هويّة العالم الذي لا يمكن حصره بجنسية أو لغة أو لون. فهي كما رآها الشاعر والإعلامي اليمني أنور العنسي “نصّ شعري مفتوح بكلّ اللغات قابل للقراءة بجميع الحواس”.