Reuters

في يوم السبت 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قامت “قوات الدعم السريع” بالهجوم على منطقة أردمتا، شرقي مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور. حدث هذا بعد هجومها واستيلائها على قاعدة الفرقة 15 مشاة للجيش السوداني والتي انسحبت منها دونما قتال يذكر بعد نجاح وساطة قادها زعماء أهليون قضت بانسحاب قوات الجيش من المنطقة

ويقول شهود عيان إن عناصر من “قوات الدعم” اغتالت أحد أقدم زعماء الإدارة الأهلية والزعماء القبليين في السودان، محمد أرباب محمد نيل؛ في المساليت غربي البلاد، والذي يبلغ من العمر 85 عاما، وكان قد تقلد هذا الموقع منذ عام 1958، ليصبح أحد أقدم منسوبي الإدارة الأهلية في السودان على الإطلاق.

وقُتل في الهجوم أيضا ابنه وثمانية من أحفاده. واتهم حقوقيون عناصر “الدعم السريع” في يونيو/حزيران الماضي بقتل ابنه محمدين محمد أرباب وأفراد آخرين من أسرته. واجتاحت عناصرها الوحدة الإدارية الواقعة شمال شرقي مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور. واقتحمت بيوت المدنيين وعمدت إلى تقتيلهم ونهب ممتلكاتهم وطردهم وإهانتهم بالسياط والعصي بشكل عنصري، وفقا لشهود عيان وروايات متطابقة وثقتها مقاطع فيديو صحيحة متدوالة على وسائل التواصل الاجتماعي. انتشرت صور جثث سكان أردمتا في الشوارع، بينما احتفلت عناصر “الدعم” بنصرها في مقر فرقة الجيش وهم يبشرون بالديمقراطية والدولة المدنية المحمولة على أسنة البنادق.

لم تكن هذه أول جرائم “الدعم السريع” في غرب دارفور. فقد قامت في بداية هذه الحرب بارتكاب مجازر مماثلة في مدينة الجنينة عاصمة الولاية؛ حيث قامت في 15 يونيو/حزيران الماضي باجتياح المدينة، واغتيال والي الولاية المرحوم خميس أبكر ثم التمثيل بجثته بشكل بشع، قبل أن تقوم بتصفية والده بعد ذلك.

وقد أطلقت “قوات الدعم” أدوات عنفها ضد مجتمع المساليت في حملة استهداف كبيرة شملت عددا من رموز قبيلة المساليت في دارفور، وراح ضحيتها أيضا الأمير طارق عبدالرحمن بحر الدين، شقيق سلطان دار المساليت، وأفراد آخرون من أسرته، ومنسق العمل الإنساني في الولاية الصادق محمد أحمد، وهو أيضا محامٍ وحقوقي معروف، وكما قام عناصر في الجماعة المسلحة باغتيال طارق مالك، رئيس المكتب الفرعي للجنة تسيير نقابة المحامين في غرب دارفور. وذلك بالإضافة إلى الهجوم على منازل عدد من الموظفين الحكوميين والأعضاء البارزين في مجتمع المساليت وقتلهم داخل منازلهم، بسحب ناشطين حقوقيين وشهود عيان.

واستعانت “قوات الدعم” في هجماتها هذه على السودانيين بمرتزقة استجلبتهم من دول أنحاء غرب أفريقيا. وأوردت الأخبار مقتل محمد أبوبكر موسى رئيس تنسيقية المعارضة التشادية في هجوم “قوات الدعم السريع” على سلاح المدرعات في الخرطوم، يوم الاثنين 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. وكان الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة السابق في السودان، فولكر بيرتس قد أورد في وقت مبكر من هذه الحرب في تقريره المقدم لمجلس الأمن وجود عناصر أجنبية تشارك في القتال في صفوف “قوات الدعم السريع”.

 

اللافت هو أن تحالف قوى الحرية والتغيير لم تصدر عن إدانات واضحة لما يحدث على يد عناصر “قوات الدعم” في دارفور. وأصدرت قوى الحرية والتغيير بياناتها المعتادة عن المضايقات التي تواجه أفرادها أو حالات منعهم من السفر ودخول البلاد، وهي بطبيعة الحال انتهاكات كبيرة وخطيرة لحقوقهم، بينما انصرف عضو مجلس السيادة ورئيس الجبهة الثورية التي تضم عددا مقدرا من حركات دارفور الهادي إدريس إلى الرد على- وتفنيد- قرار قائد الجيش عبدالفتاح البرهان بإقالته من مجلس السيادة، ولاذ الآخرون بالصمت والتجاهل وسط انخراط كوادر قوى الحرية والتغيير الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي في الهجوم على كل من يشير إلى هذه الجرائم أو ينتقد “قوات الدعم” على ارتكابها، في محاولة، فيما يبدو، لصرف التركيز والنظر عنها وتسليط الضوء على أي أمر آخر.

إن حالة الذهول هذه لم تعرِّ فقط التحالف المضمر بين “قوات الدعم” وبعض مراكز اتخاذ القرار في قوى الحرية والتغيير، كما يجمع معارضوها، فهذا الأمر ظل مكشوفا منذ وقت طويل، إذ يرون أن “قوات الدعم” حرصت على ذلك التحالف لدعم خطها السياسي. وهو الأمر الذي وصل إلى درجة أن التحالف المتشدق بالديمقراطية، قام برفض اعتماد انتخابات داخلية لتجمع المهنيين، بغرض الحفاظ على الوجود السياسي لأفراد معينين لم يتم انتخابهم في داخله، وعمل بعد ذلك من أجل دفع تجمع المهنيين السودانيين للانشقاق واعتماد تمثيل الفصيل الذي خسر الانتخابات داخل هياكل الحرية والتغيير.

كشف هذا الذهول أيضا عن الفهم المغلوط للسياسة الذي يعتنقه البعض، فالأمر لا يعدو عندهم سوى اللقاءات الدبلوماسية والتصريحات العنترية واتفاقات الغرف المغلقة المعزولة عن حياة الناس وما يصيبهم فيها. يتخيل كل واحد منهم أن أمر إقالته أو تعيينه أو منصبه هو أهم وأخطر عشرات المرات من مجزرة جماعية وانتهاكات تصيب شعبهم الذي يتنافسون على حكمه. هي ممارسة ذاتية بامتياز للسياسة، لا يتعدى فيها أحدهم حدود نفسه، دونما اعتبار لشؤون الناس أو البلد الذي يرغبون في إدارته.

 

يرى معارضو “قوات الدعم السريع” أنها حرصت على تعزيز تحالف مع قوى الحرية والتغيير، لتحقيق أهدافها السياسية

 

 

“قوات حمايتي”

ويقول حقوقيون إن “قوات الدعم السريع” تنتهج نظام الميليشيات والمرتزقة في إدارة شؤونها، إذ إنها ضالعة في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في مناطق عدة بالسودان، لا سيما دارفور، منذ اندلاع حرب 15 أبريل/نيسان وقبلها. فقوات “الدعم السريع” قامت بالأساس على جعل الحرب حرفة لكسب العيش، كما يقولون. تأسست ونما نفوذها وتزايد عبر قدرة مالكها محمد حمدان دقلو (حميدتي) على مد نظام الرئيس البشير المخلوع بأكبر قدر من المقاتلين بسرعة، كما ذكر حميدتي نفسه ذات مرة خلال عهد البشير، الذي جذل بها حتى سماها “قوات حمايتي” وليس حميدتي.

 

اعتمد حميدتي في ذلك على إغراء المقاتلين بالربح السهل والسريع؛ حيث ينضم الدعامة إلى قواته مقابل أجر ثابت، أما الغنيمة فهي لغانمها، وهو عامل آخر يشجع عناصره على التفلت والسعي وراء المعارك. لم يحتج إلى كثير تدريب أو تأهيل في مجال الجندية لإدراج عناصر مقاتلة في صفوفه، ولم يهتم نظام الإسلاميين المخلوع بذلك، فكل ما كان يريده هو عناصر مقاتلة يستعين بها في بسط هيمنته ونفوذه من دون حمولات آيديولوجية كثيرة. وهو ما وجدته فيها أيضا بقايا قوى الحرية والتغيير بعد المتغيرات التي عصفت بمسار الثورة. فهذه الميليشيا، مجرد أداة عسكرية ذات كتاب خاوٍ من المضمون إلا طموح صاحبها للسلطة والنفوذ.

 

 

فخطت عليها شعارات الحكم المدني وإنهاء التمايزات التنموية والديمقراطية. وهي شعارات لا يضير الميليشيا تبنيها وترديدها ما دامت لا تمس نفوذ صاحب الميليشيا واستثماراته وتجنيده.

بل وحتى في مجال مكافحة الفساد، اجتهدت قوى الحرية والتغيير في الحديث عما نهبه الإسلاميون وما دمروه في هياكل الاقتصاد الوطني، وضرورة السعي لاسترداد ما نهبوه وعن استثمارات الجيش وضررها البالغ على الاقتصاد. لكن يأخذ عليهم معارضوهم عدم الحديث عن تنامي استثمارات “قوات الدعم” والرشى السياسية التي تداولتها في عهد البشير وبعده لبناء نفوذها السياسي والاقتصادي. بل اندفع بعضهم كعضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان، ليتحدث عن ضرورة الحفاظ على هذه القوات غير النظامية، لأن بناءها تم بأموال دافعي الضرائب السوداني، فيما يبرر بعضهم الآخر عدم الحديث عن سرطان “الدعم السريع” الاقتصادي بأن هذه الأموال هي ممتلكات شخصية لحميدتي وأسرته من “آل دقلو”، وأنها ليست نتيجة تمكين الإسلاميين وإفسادهم واستبدادهم لحماية نظامهم.

استثمرت “قوات الدعم” أيضا، بحسب معارضيها، في إفساد نسق وسبل كسب العيش الطبيعية في السودان عموما وفي دارفور على وجه الخصوص. وأفسدت صراعات الرعاة والمزارعين التي زادت حدتها منذ الثمانينات نسق التعايش الاجتماعي في دارفور. وانفجر هذا الأمر بشكل إثني في حرب دارفور عام 2003 بين الرعاة الذين ينتمي أغلبهم لعناصر عربية في دارفور والمزارعين الذين ينحدرون من عناصر أفريقية. ويرى معارضوها أن “قوات الدعم” استثمرت في هذا التنازع منذ تكويناتها الجنجويدية الأولى، حيث جعلت الانضمام إليها وحمل السلاح هو أحد أكثر سبل كسب العيش ربحا للشباب في الإقليم. ثم جاءت حمى التنقيب عن الذهب- الذي انخرطت فيه “قوات الدعم” بشكل كبير- لتدعيم ذلك.

أصبحت “قوات الدعم السريع” حارسة بوابة الذهب في السودان؛ فبين أنشطتها المباشرة في التنقيب، ووسط تقارير عن فرضها إتاوات الحماية والتسويق التي تفرضها على المعدنيين التقليديين والشراكات التي أبرمتها مع الشركات الكبيرة العاملة في مجال التنقيب عن الذهب، بل إن البعض يقول إنها أصبحت وكالة التشغيل الكبرى في السودان، في ظل انهيار نظام سبل كسب العيش التقليدية من زراعة ورعي. وأشارت تقارير بحثية حديثة إلى أن المطامع المتعلقة بالذهب تلعب دورا كبيرا في الحرب الحالية في السودان، حيث يقدر إنتاجه السنوي بمئة طن من الذهب، ولكن ما يذهب إلى خزينة الدولة من حصيلته لا يتجاوز 30 طنا.