وصول “الإخوان المسلمين”، الذين تصنفهم دول خليجية كجماعة إرهابية، إلى البرلمان، يكشف أيضاً عن طبيعة التوتر الصامت بين عمان وبين دول اتفاقات “إبراهام”، التي زادت من مخاوف الأردن الديموغرافية، بفعل عدم ربطها بين السلام وبين حق الفلسطينيين بدولة في الضفة الغربية والقدس. ولا بد والحال هذه من تذكير الدول الإبراهيمية باحتمالات السلام المجاني، و”الإخوان المسلمين” هم أحد هذه الاحتمالات.
ليس فوز “الإخوان المسلمين” الأردنيين بأقل بقليل من ربع مقاعد البرلمان، هو أول ما يلفت في نتائج الانتخابات الأردنية، على رغم أهمية هذه النتيجة، بل قرار الدولة العميق في عمان، بإفساح المجال لهذه الجماعة بأن تكون جزءاً من المشهد السياسي في الأردن، بعد نحو أكثر من ثلاثة عقود من الحصار الانتخابي الذي مورس بحق حزب “جبهة العمل الإسلامي”، الذراع السياسية للإخوان في الأردن.
أُجريت الانتخابات الأردنية بقدر لا بأس به من النزاهة باعتراف الإخوان أنفسهم، والديوان الملكي استدرج هذه المرة الجماعة إلى البرلمان، بعد سنوات طوال من العلاقة المتوترة بين الإسلاميين وبين الدولة بمستوياتها المختلفة.
المرة الأخيرة التي أتيح فيها للإخوان الأردنيين الحضور في البرلمان كانت في العام 1989، فتمكنوا في حينها من الحصول على 27 في المئة من المقاعد. وبعدها، أملت اتفاقية وادي عربة عام 1994 وقرار فك الارتباط بالضفة الغربية، إبعادهم مجدداً، ذاك أن التسوية في حينها لم تكن تتّسع لصوت الإخوان، وهم بدورهم فهموا ذلك.
مع قليل من المبالغة يمكن القول إن اتفاقية وادي عربة للسلام بين الأردن وإسرائيل أطاحت بالإخوان من البرلمان الأردني، والحرب على غزة وعلى الضفة الغربية أعادتهم إليه.
خلال سنوات الجمر والاحتقان بين الإخوان والعرش الهاشمي في الأردن، لطالما شكل نفوذ حركة “حماس” داخل الجماعة حساسية كبيرة لدوائر السلطة في عمان، ولطالما أبدت السلطة ضيقها من حجم نفوذ حركة “حماس” داخل الجماعة الأردنية.
سُجن مسؤولون كبار في الإخوان بهذه التهمة، وحُجز على المركز الإسلامي، الذراع الاقتصادية والتربوية للجماعة، بهذه التهمة أيضاً. وبالفعل، تحول الإخوان إلى تنظيم فلسطيني في الأردن، بعدما انتقل نفوذه وقيادته من البيئة الشرق أردنية إلى البيئة الفلسطينية – الأردنية. وعززت من سردية السلطة حيال إخوانها حقيقة أن معظم قيادات “حماس” يحملون جوازات سفر أردنية، وتربطهم بإخوان الأردن علاقات تنظيمية وسياسية لم تتمكن الدولة من ضبط حدودها.
الأرجح أن منسوب حمساوية الإخوان الأردنيين اليوم، في ظل الحرب في غزة، يفوق المعدلات التي لطالما حاصرت الدولة إخوانها بسببه، فعمان هي المدينة العربية الوحيدة التي شهدت تظاهرات حاشدة دعماً لـ”حماس” في غزة، وصور أبو عبيدة تملأ شوارع عمان الشرقية، ولم يكن الأمر مريحاً للسلطة!.
“الإخوان المسلمين” بوصفهم “شركاء” في البرلمان الأردني الجديد، وفي ظل انتخابات أُجريت بموازاة الحرب على غزة، هم إحدى الإجابات الأردنية على ما يحصل في الضفة الغربية.
وعلى رغم ما سبق كان القرار واضحاً في انتخابات اليوم، ويتمثل في إفساح المجال لهم بوصول مضبوط إلى البرلمان. لا يمكن تفسير ذلك إلا بوصفه إجابة أردنية عن مساعي إسرائيل ونواياها لجهة تهجير سكان الضفة الغربية لنهر الأردن إلى شرق النهر، وما يمثله ذلك من مخاطر وجودية بالنسبة الى الأردن.
الترانسفير يعني للأردن تهديداً للكيان، وتغييراً ديموغرافياً هائلاً سيطيح بأسس قيام المملكة. والأردن يعرف أن معادلة “الوطن البديل” لطالما شكلت حجر زاوية للوعي اليميني الإسرائيلي منذ قيام الكيان، وجابوتنسكي الذي استعاده نتانياهو أخيراً هو صاحب نظرية “الوطن البديل”.
واليوم، تشهد الضفة الغربية وقائع يومية لا يمكن فهمها إلا بوصفها خطوات للتخلص من السكان الفلسطينيين عبر دفعهم الى الهجرة إلى شرق النهر، أي إلى الأردن، فوصول نحو مليوني فلسطيني إلى الأردن يعني تحوّله إلى دولة فلسطينية، واكتمال ملامح “الوطن البديل”.
إسرائيل تخوض حرباً حقيقية على الأردن، بموازاة حملاتها العسكرية في غزة وفي لبنان وسوريا. لكنّ فارقاً جوهرياً بين تلك الحروب، وبين الحرب الباردة على عمان، ذاك أن عمان تشعر بمخاطر وجودية جراء الخطر السكاني القادم من الضفة الغربية، ناهيك باستهداف سيادتها على المسجد الأقصى، عبر غزوات وزير الأمن القومي الإسرائيلي ايتمار بن غفير المتواصلة على المسجد.
“الإخوان المسلمين” بوصفهم “شركاء” في البرلمان الأردني الجديد، وفي ظل انتخابات أُجريت بموازاة الحرب على غزة، هم إحدى الإجابات الأردنية على ما يحصل في الضفة الغربية.
البرلمان هو التركيبة السياسية للجار الشرقي، وحساسية الدولة العميقة في عمان حيال حمساوية الإخوان في الأردن، تراجعت أمام المخاطر الوجودية التي تشكلها حكومة بنيامين نتانياهو على المملكة. عمان قالت لتل أبيب صبيحة الانتخابات بأن اللعب الديموغرافي سيأخذنا إلى مشهد مختلف شرق النهر. والترانسفير سيزخم حضور الإخوان في المملكة، وسينقلهم من البرلمان إلى الحكومة.
الرسالة الأردنية تنطوي على وجهة نظر أخرى أيضاً، فوصول “الإخوان المسلمين”، الذين تصنفهم دول خليجية كجماعة إرهابية، إلى البرلمان، يكشف أيضاً عن طبيعة التوتر الصامت بين عمان وبين دول اتفاقات “إبراهام”، التي زادت من مخاوف الأردن الديموغرافية، بفعل عدم ربطها بين السلام وبين حق الفلسطينيين بدولة في الضفة الغربية والقدس. ولا بد والحال هذه من تذكير الدول الإبراهيمية باحتمالات السلام المجاني، و”الإخوان المسلمين” هم أحد هذه الاحتمالات.