النضوج السياسي يملي علينا أن نتوقّف عن مقاربة السياسة بالعواطف، وتحديداً السياسة الخارجية، واستبدالها بالعقل وبالمصلحة. فلم يعد ممكناً مثلاً، أن تكون مصالحنا الاقتصادية بميل، وتموضعنا في السياسة الخارجية بميل آخر. فلنُحبّ من نشاء، ولنكره من نشاء، لكن دعونا لا نفعل إلا مصلحتنا.
قبل مئة وأربع سنوات، وقف الجنرال غورو في قصر الصنوبر، وأعلن بيده المبتورة ما أسماه زفاف بيروت إلى جبل لبنان وقيام دولة لبنان الكبير.
قيل الكثير عن هذه التجربة، وصار الذمّ بها عادةً، يبدأ بها كل “مثقّف” حديثه.
لكن مهلاً… لأنه لم تمضِ بضع سنوات على إنشاء هذا اللبنان الكبير، حتى لم يعد العدد الأكبر من اللبنانيين؛ على رغم فروقاتهم الطائفية والاقتصادية والاجتماعية، يريد أن يكون مواطناً بأي دولة وطنية أخرى من دول الجوار، بل بالعكس، صار الجميع يفاخر بلبنانيته، حتى بلغت هذه المفاخرة أحياناً حدّ العنصرية أو الابتذال.
لكن هذا البلد، على رغم كل النقد الموضوعي الذي يمكننا القيام به، يبقى ربما أجمل تجربة بين كل الدول التي نشأت بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وأغناها وربما أكثرها مشروعيةً، مع مصر.
فاليوم كلنا كلبنانيين، مقيمين ومغتربين، نحبّ هذا البلد ولدينا حسّ كبير بالانتماء إليه. هذا أمر مفروغ منه.
ما ليس مفروغاً منه، هو أن نحبّ مصلحته.
قام مفهوم الدولة الوطنية (Etat-Nation) على أولوية مصلحة الدولة وشعبها دون أي شيء آخر. والمقصود بمصلحتها، مصلحتها المحدّدة عبر مؤشّرات وأرقام علمية مرتبطة بالاقتصاد والحرية والعدالة والصحة والبيئة والتربية والعملة والفساد، وبخاصّة عبر مؤشّرات السعادة والرفاهية.
والحال أن خلافنا في لبنان ليس على ماهية مصلحة هذا البلد؛ فهذه إشكالية عادية موجودة في كل الدول، المتقدمة منها قبل النامية؛ وما النظام الديمقراطي إلا أحد طرق تنظيمها.
مشكلتنا في لبنان، لا بل نكبتنا، أننا نختلف على ما إذا كانت مصلحة البلد ومصلحة ناسه هي أولوية أم لا.
فعلى سبيل المثال لا الحصر: في عام 2000، قوبل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك نيّته الانسحاب من الجنوب تحت ضغط المقاومة، برفض من محور المقاومة وحلفاء سوريا في لبنان، وعلى رأسهم “حزب الله”.
نعم! رفضوا تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي لأنه يهدّد وحدة المسار والمصير مع “الشقيقة سوريا”، إذ لا يجوز أن يتحرّر الجنوب ويبقى الجولان محتلاً (ولمن تخونه الذاكرة، يمكنه مراجعة أرشيف الصحف والتلفزيونات).
بمعنى آخر، إذا كان هذا التحرير يفيد لبنان ومصلحته وسيادته، إنما يضرّ بِـ “سوريا الأسد”، أو بالحدّ الأدنى لا يفيدها، فنحن لا نريده، لأن مصلحة سوريا، أهمّ من مصلحة لبنان.
وعندما كنّا نطالب بانسحاب الجيش السوري، كانوا يجيبون بأن هذا المطلب يخدم مصلحة إسرائيل – بحسب قولهم – وبالتالي لا نريده.
بمعنى آخر، إذا كان هذا التحرير يفيد لبنان ومصلحته وسيادته، إنما يفيدُ إسرائيل أيضاً – دائماً بحسب قولهم – فنحن أيضاً لا نريده، لأن إلحاق الضرر بمصلحة إسرائيل، أهمّ من إحقاق مصلحة لبنان.
اقتصادا لبنان وإيران في مهبّ عواصف الإسناد والمشاغلة!
واليوم، يتباهون بأنهم هجّروا سكّان شمال إسرائيل، ويعتبرون هذا الأمر من عناصر القوّة. فيما لا يعدّون تهجير سكّان جنوب لبنان وتدمير بيوتهم ومستقبلهم من عناصر الضعف، لأنّ أهل الجنوب وكل اللبنانيين وبيوتهم وأرزاقهم ومستقبلهم ومصالحهم، ليسوا جزءاً من حسابات الربح والخسارة عندهم ولو تدمّر كل الجنوب، فالمهمّ هو تدمير إسرائيل وليس بناء لبنان.
وهذه أزمة أنتروبولوجية أكثر منها سياسية، يلزمها دراسة وتشريح علميَّين، بعيداً عن الأحكام المسبقة.
لقد بلغت الأزمة في لبنان مرحلة لم يعد ممكناً فيها عملياً ولا مقبولاً، ألا تأخذ بوصلة العمل السياسي في عين الاعتبار مصلحة هذا البلد ومصالح شعبه.
وها هي ثورة ” 17 تشرين”… فقد كانت في ما كانت، دعوةً مباشرةً للناس إلى ترك أيديولوجياتهم وانتماءاتهم وطوائفهم وقومياتهم، التي تبيّن بالنتيجة أنها لا تطعم خبزاً، والتكتّل حول مصالحهم والدفاع عنها.
لكن هذا لا يعني أننا غير مدركين أن البلد ليس معزولاً عن محيطه. فهو لم يكن يوماً كذلك ولن يكون. إنما نسعى فقط ونطالب بتبدية مصلحته ومصلحة شعبه على أي شيء آخر، آخذين بعين الاعتبار مشاكل المنطقة وتعقيداتها وأزماتها وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وحجم العنف المهول الذي شهدته تاريخياً وما زالت، بأشكال مختلفة من تهجير وتدمير واحتلال وإبادة.
لكن، إذا لم نبادر نحن اللبنانيين للانتباه إلى مصالحنا، فلن يبادر أحد إلى ذلك. لأنه ليس من واجب أي أحد آخر أن يقوم بذلك عنا. فهذا واجبنا نحن تجاه أنفسنا وأولادنا وتجاه بلدنا.
لأن هدف كل دولة، لا بل واجباتها، أن تدافع عن مصالحها، وأن تحدّد علاقاتها الخارجية على أساسها، فالدولة الصديقة هي تلك التي لنا معها مصالح مشتركة، والدولة العدوّة هي تلك التي تتضارب مصالحنا معها.
لأن الدول مصالح.
والنضوج السياسي يملي علينا أن نتوقّف عن مقاربة السياسة بالعواطف، وتحديداً السياسة الخارجية، واستبدالها بالعقل وبالمصلحة. فلم يعد ممكناً مثلاً، أن تكون مصالحنا الاقتصادية بميل، وتموضعنا في السياسة الخارجية بميل آخر. فلنُحبّ من نشاء، ولنكره من نشاء، لكن دعونا لا نفعل إلا مصلحتنا.
فهذه إيران، ما زالت لليوم لم تردّ على اغتيال إسماعيل هنية في طهران، والأرجح أنها لن تفعل، مراعاةً لمصالحها الاستراتيجية. وحسناً قد يكون فعلها، لأن من واجبها أن تراعي مصالحها.
نكبتنا أننا في لبنان فتحنا جبهة الجنوب، بعد أقل من 24 ساعة من عملية ” 7 تشرين” كأنّه ما من أحد يهتمّ لهذا البلد. كأنه لا يحقّ لهذا البلد أن يكون له مصالح. لا استراتيجية ولا غير استراتيجية.
فليس المشكلة كما تعوّدنا أن نسمع، أن هناك من يريد عزل لبنان عن المنطقة، أساساً ليس باستطاعة أحد ذلك. إنما المشكلة هي أن هناك من ينسى دائماً، وهو يسحب لبنان إلى قعر مشاكل المنطقة، أنه في ساحة هذه المعركة الإقليمية، هناك أيضاً أناس لديهم مستقبل وأحلام يفكّرون فيها ويعملون لأجلها، وأنه ليس من المؤكّد أنهم يريدون أن يُفنوا أنفسهم بالكامل فداء للمعركة، بل المؤكد أن هذه الساحة ليست No men’s land، ولا “وكالة من دون بواب”.
بمعنى آخر، لقد أصبحنا في مكانٍ، حتى لو رضينا فيه بالتعايش مع الساحة، فالساحة لم تعد ترضى بنا.
لقد صار مجرّد وجودنا كمواطنين على اختلاف أشكالنا وألواننا، وبالأخصّ أولئك الساكنين في مناطق المواجهة المباشرة، يشكّل عبئاً على الساحة ويُتعبها بتفاصيلنا الحياتية التافهة ويُلهيها عن أولوياتها… فالساحة بحاجة إلى مقاتلين، لا إلى مواطنين.
نعم، قيل الكثير عن أزمات البلد، وإذا كانت المشكلة بالنصوص أو بالنفوس، أو بدول المحيط وأنظمتها… وقد تكون في كل ذلك، أو في واحد منها، لأنه حتى لو أتينا بخيرة الناس وأكثرهم علماً وتحضّراً وتقدّماً وتمتّعاً بكل الصفات الحميدة، وأسكنّاهم في أجمل منطقة في العالم وأرقاها وأكثرها هدوءاً، سيستحيل عليهم بناء بلد متطوّر وصالح للعيش، إذا لم يكونوا متوافقين على أن هدفهم الأوّل هو بناء هذا البلد وإعماره.
فمركزية مصلحة البلد، أي بلد، هي من البديهيات. إلا عندنا، فهذا الموضوع لا يزال يحتمل الصحّ والخطأ. فالبديهي ليس بديهياً في هذا البلد.
والحال أن بداية أي حلّ لمعضلاتنا هي أن نصدّق ونقتنع أننا نعيش في بلد كسائر بلدان كوكب الأرض، لا أكثر ولا أقلّ. وأنه كأي بلد آخر، بلدنا أيضاً لديه مصالح، وأن نرفض من الآن فصاعداً أن يعيَّب علينا الدفاع عنها كأولوية مطلقة.
وأن نرفض أيضاً أنّ يتمّ تقييمنا بين وطنيين وخونة، بناءً على أسس ومعايير مجهولة لا نعرف أين تبدأ، ولا نعرف مصلحة من تخدم.
لأن الحدَّ الفاصل والوحيد بين الوطنية وبين الخيانة هو مصلحة هذا البلد.