صعّد العدو الإسرائيلي ضرباته على لبنان منذ 17 أيلول، عندما لجأ إلى هجوم تكنولوجي غير مسبوق، إلى حد وصفه ليون بانيتا، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، بأنه “شكل من أشكال الإرهاب”. وما زالت الهجمات البربرية تتصاعد لتطال معظم الأراضي اللبنانية. إن تواطؤ المجتمع الدولي مع المجازر التي ارتُكبت في غزة شجّع إسرائيل على توسيع عدوانها على لبنان وارتكاب المزيد من المجازر، مهددة بجعل لبنان غزة ثانية في انتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني. كل هذا يحصل على مسمع ومرأى العالم، دون أي محاولة لردع إسرائيل عن إجرامها.
البلد الذي يمتلك القدرة الأكبر للتأثير على إسرائيل هو الولايات المتحدة. فقد أعلنت واشنطن مراراً أن أهدافها في الشرق الأوسط تشمل تخفيف التوترات، ووقف إطلاق النار في غزة، وإشاعة الهدوء على طول الحدود اللبنانية، والسعي نحو سلام دائم وحل الدولتين. لكن بالرغم من دعوات أميركا المتكررة لوقف إطلاق النار، لم تستجب حكومة نتنياهو، بل استمرت في التصعيد، مما يثير تساؤلات حول جدية الولايات المتحدة في ممارسة ضغوط فعلية على إسرائيل، وهي التي تمتلك أوراق ضغط كثيرة وجدية.
استمر بنيامين نتنياهو في تحدي جميع الجهود الدولية، بما في ذلك النداء الصادر عن الولايات المتحدة وفرنسا على هامش الاجتماعات السنوية للأمم المتحدة، والذي وافق عليه لبنان وعدد كبير من الدول الكبرى المؤثرة، كما وافق عليه العدو الإسرائيلي، وإلا لما كان ليصدر. ويقضي النداء بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أسابيع والبدء بالتفاوض حول كيفية تطبيق قرار الأمم المتحدة 1701. ولكن بدل الالتزام بهذا النداء، قامت إسرائيل بتصعيد عدوانها بشن هجوم واسع على لبنان، مستهدفة أحياءً مدنية مكتظة بالسكان، حتى وصل بها الإجرام إلى منع فرق الإنقاذ من الوصول إلى الأماكن المهدمة لمحاولة إنقاذ أي إنسان ما يزال على قيد الحياة
.
أسفرت هذه الاعتداءات عن تهجير حوالي مليون ومئتي ألف لبناني في وقت قصير، مسببة أزمة إنسانية غير مسبوقة، تُضاف إلى الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعاني منها لبنان. حجم الأضرار الاقتصادية هائل، ولا يمكن تقديره بالكامل حالياً لأن العنف ما زال في ذروته.
عندما سُئل الرئيس بايدن أخيراً عن توغل إسرائيلي في جنوب لبنان، أجاب بضرورة وقف إطلاق النار فوراً. بقي نتنياهو متجاهلاً بصلافة كل الذين ينادون بضرورة وقف إطلاق النار، وكأن تصريحات بايدن غير ذات قيمة عنده. كما أن مجرد تصريح من الرئيس الفرنسي بضرورة وقف إطلاق النار ووقف إرسال السلاح إلى إسرائيل، جُوبه من نتنياهو بلغة فوقية واستعلاء غير مسبوق في العلاقات الدولية. وبدل أن تتخذ الولايات المتحدة (والدول المؤثرة الأخرى) موقفاً أكثر صرامة مع إسرائيل، تواصل إرسال أساطيلها إلى المنطقة، مما يشجعها على مواصلة أعمالها الوحشية.
ولم تكتفِ الولايات المتحدة بذلك، بل ذهبت بعيداً وبدّلت سرديتها لتنسجم مع مواقف إسرائيل إلى درجة تبرير أفعالها تحت غطاء “الدفاع عن النفس”. لكن هل من المقبول أن تستبيح إسرائيل كل المحرمات وتستخدم قوتها العسكرية بإفراط لقتل المدنيين تحت هذا الادعاء؟ هذا الموقف من الإدارة الأميركية الحالية يختلف عن رؤساء أميركيين سابقين لم يتماهوا إلى هذا الحد مع تمادي إسرائيل. كما أن تبني الولايات المتحدة ودول أخرى للسردية المتكررة حول استخدام المدنيين كـ”دروع بشرية” يفتقر إلى الواقعية، بل قدّم “دروعاً سياسية” لحكومة إسرائيل لحمايتها من المساءلة.
أين الولايات المتحدة اليوم من عام 1982، عندما كانت إسرائيل تقصف بيروت؟ اتصل الرئيس الأميركي رونالد ريغان برئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت وطلب منه وقف القصف الإسرائيلي لبيروت فوراً، وخلال دقائق توقف القصف. شتان بين الجهود الديبلوماسية الحالية وبين الاتصال الهاتفي الوحيد الذي يشير إلى ما وصل إليه نفوذ أميركا وتأثيرها على صديقها الأقرب. فهل يقبل الأميركيون العاديون أن يُعاملوا بهذه الطريقة المتعالية من دولة صديقة أغدقوا عليها مئات المليارات؟
أما إن كانت التصريحات الأميركية شكلية، فإن ذلك يضر أيضاً كثيراً بما بقي من مصداقيتها في العالم ويقوّض نفوذها. إن المواقف الأميركية الأخيرة هي نكسة ديبلوماسية كبيرة، وستكون لها عواقب على الحلفاء والأصدقاء، وهي التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان. ولا يمكن تبرير هذه المواقف تحت أي مسمى، حتى في السياسة، لأنها قد تضر باحتمال بقاء الديموقراطيين في الحكم، بعدما شهدنا بعض التحول في الرأي العام الأميركي، وخاصة بين الشباب، بعد المجازر التي ارتكبتها إسرائيل.
إن وقف إراقة الدماء وحماية حقوق الإنسان هما ضرورة أخلاقية قبل أن تكون قانونية، ليس فقط لحماية من يعانون اليوم، بل للحفاظ على الاستقرار الإقليمي. استخدام إسرائيل للأسلحة المتطورة والتكنولوجيا لمحو الأحياء وتدمير المجتمعات يهدد نسيج الإنسانية الذي يُفترض أن تخدمه هذه التكنولوجيا. على الولايات المتحدة أن تستعمل نفوذها لوقف هذه الأعمال العدائية وإيقاف هذه المآسي. فآلة الموت الإسرائيلية لن تستطيع القضاء على إرادة شعب مستعدّ للاستشهاد إن كان الموت هو الطريق الوحيد لحياة أفضل.
• نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال