منذ أربعة عقود ونيف والسؤال الذي يسيطر على المشهد السياسي العام في الشرق الاوسط والمجتمع الدولي يتمحور حول الطموحات الايرانية في المنطقة، بخاصة أن طهران منذ انتصار ثورتها التي أخذت طابعاً إسلامياً تضع استراتيجية عقائدية وأيديولوجية تقوم على تبني شعار الدفاع عن القضية الفلسطينية والتصدي للمشروع الإسرائيلي
في البداية سعت إيران إلى بناء شراكة مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قبل أن يأخذ خيار الابتعاد بعد أن اصطدم بمحاولات طهران لمصادرة القرار الفلسطيني، ولاحقاً عملت على بناء مشروعها المستقل للتعامل مع هذه القضية من خلال استقطاب فصائل فلسطينية أو بناء ودعم قوى مؤيدة لها ترفع شعار التصدي والمواجهة مع إسرائيل.
والأسباب والدوافع التي حكمت الخيار الإيراني بالوقوف وتبني القضية الفلسطينية معقدة ومتشابكة، يتداخل فيها العقائدي مع المصلحي والاستراتيجي مع التكتيكي، فمن ناحية تشكل القضية الفلسطينية، بما أنها تخص العالم الإسلامي، الجسر الذي يفتح الطريق أمام النظام الإيراني الإسلامي الجديد للإطلالة على قضايا العالم الإسلامي وأن يكون شريكاً فيها، مما يعني بالتالي الحصول على مشروعية إسلامية في ترتيب استراتيجيته والتمدد نحو العالم الإسلامي الذي عبر عنه في تلك الفترة بأطروحة “تصدير الثورة”، وهي الأطروحة التي تعرضت إلى كثير من المؤثرات السياسية حولتها إلى أطروحة أكثر وضوحاً تقوم على الدفاع عن المصالح القومية والاستراتيجية لإيران في الشرق الأوسط وامتداداً في منطقة غرب آسيا.
وباعتبار أن القضية الفلسطينية تشكل القضية العربية الأساس والمحورية فإن الدخول عليها يساعد ويفتح الطريق على النظام في طهران بأن يكون شريكاً في هذه القضية وأزمتها إلى جانب هذه الدول التي تشكل محيطه الاستراتيجي الحيوي من خلال تبني حركات المقاومة، سواء في لبنان أو في الوسط الفلسطيني من خارج منظمة التحرير الفلسطينية، وهنا يمكن القول إن الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية شكل هدفاً لقيادة النظام من أجل الحصول على مشروعية إسلامية ومشروعية إقليمية والسعي إلى انتزاع اعتراف عربي بشراكتها مباشرة أو بصورة غير مباشرة عبر حلفائها وجماعاتها في دول المنطقة في أي مشاريع للحل في الشرق الأوسط، وأن تكون قادرة على عرقلتها أو إعاقتها وإفشالها في حال لم تأخذ بعين الاعتبار مصالحها القومية والاستراتيجية.
ولا شك في أن طهران عملت على بلورة هذا التوجه وتكريسه في سياستها الإقليمية بداية من خلال الشعار الذي رفعته بعد انتصار الثورة “اليوم إيران وغداً فلسطين”، ثم لاحقاً من خلال مكتب حركات التحرر التابع لحرس الثورة والذي تحول لاحقاً إلى تشكيل داخل الحرس باسم “قوة القدس” الذي تولى مهمة بناء منظومة إقليمية تابعة لإيران في لبنان والعراق واليمن إلى سوريا وفلسطين، وصولاً إلى الخطوة الأخيرة بإعلان “محور الممانعة أو المقاومة” والكشف عن تشكيل منظومة عسكرية تضم جميع الفصائل الموالية لها تحت مسمى “وحدة الساحات”.
هذا المسار المتشعب والطويل الذي بدأته طهران في الإقليم والقائم على مبدأ مواجهة الخطر الإسرائيلي وشعار تحرير فلسطين يدفع إلى التساؤل حول “أي إسرائيل تريد إيران؟” وهل تسعى حقاً إلى العمل على إزالة الكيان الإسرائيلي من الوجود بناء على الشعار العقائدي والأيديولوجي الذي طرحه الزعيم المؤسس قبل نحو أربعة عقود ونيف؟ أم أن لديها رؤية أكثر براغماتية وقراءة أكثر واقعية لما هو قائم في الإقليم من وقائع سياسية، وبالتالي إمكان التعايش مع كيان ودولة إسرائيلية ضمن الشروط التي تخدم مصالحها واستراتيجياتها؟
لا شك في أن النظام الإيراني ومن خلال قبوله بمبدأ حل الدولتين الذي تبلور خلال الأيام الأخيرة في قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة حول غزة، والبيان الختامي للقمة العربية الإسلامية التي استضافتها الرياض، على رغم التحفظ اللاحق على بيان الرياض وما يتعلق بحل الدولتين، أسقط عملياً شعار إزالة الكيان الإسرائيلي من استراتيجيته، وبالتالي الحديث عن أية حقائق وحلول تخدم الرؤية الإيرانية في الإقليم.
لا شك في أن وجود إسرائيل بالمنطقة يشكل حاجة إيرانية، وبحسب تعبير أحد قيادات حرس الثورة الكبار الذي يعود لأعوام عدة مضت فإن على إيران أن تعمل على وجود إسرائيل إذا لم تكن موجودة في المنطقة، لأن هذا الوجود يعطي الشرعية والغطاء والمسوغ للتدخل والدور الإيراني وتوسعه في الإقليم، إلا أن إسرائيل القوية والمهيمنة والرافضة لأية تسويات، أو المعارضة والمعادية لأي دور إيراني في الإقليم لا يخدم المصلحة الإيرانية، وبالتالي فإن دور المقاومة والقوى الرديفة لحرس الثورة أو ما يسمى الأذرع الإيرانية في الإقليم تقع عليها مهمة إضعاف هذا الكيان، بحيث لا تكون له سلطة القرار والفرض في أية تسوية محتملة في أزمات الإقليم ورسم خريطة توزيع موازين القوى فيه.
العملية التي قامت بها حركة “حماس” في منطقة غلاف غزة والضربة القاسية التي ألحقتها بالمؤسستين الأمنية والعسكرية الإسرائيليتين وما تشهده غزة من معارك وعجز العملية البرية الإسرائيلية عن تحقيق إنجاز حاسم يسمح لها بإعلان انتصار ميداني حتى الآن، والذي يبدو صعباً أيضاً خلال الأيام المقبلة، يخدم في المحصلة أو يصب في الهدف الإيراني ويجيب عن السؤال حول أي إسرائيل تريدها طهران.
إسرائيل المترنحة والخاسرة لقوة الردع والتفوق وغير القادرة على تهديد إيران في أي وقت أو أن تشكل حائلاً وعائقاً أمام الطموحات الإقليمية لطهران هو المطلوب ويلبي الطموح والهدف الإيراني الذي قد تحققه حرب غزة من دون أن يكون النظام أمام احتمال الدخول في حرب مباشرة أو موسعة في المنطقة بمشاركة جميع حلفائه، وما يعنيه ذلك من ارتفاع إمكان الدخول في خسائر وأثمان لا يريدها، وإسرائيل الضعيفة والمحتاجة إلى الحماية الأميركية المباشرة قد تعيد رسم صورة المتنافسين في الإقليم، وقد يسهم ذلك في وضع طهران مباشرة في مقابل واشنطن على طاولة التسويات وليس إسرائيل.