في صباح 14 أيار (مايو) عام 1971، سُحبت الحراسة الشرطية من أمام فيلا وزير الإعلام المستقيل محمد فايق في شارع نهرو بضاحية مصر الجديدة، وحلّت مكانها قوات من الحرس الجمهوري، وأبلغ فايق أنه قيد الإقامة الجبرية. لم تمض ساعات قليلة حتى ألقي القبض عليه، في فجر اليوم التالي، ليقضي في السجن 10 سنوات، بعد اتهامه ومحاكمته في قضية “مراكز القوى”، التي سمّاها السادات “ثورة التصحيح”.

 

عشر سنوات في السجن كافية لأن تكسر صلابة أي إنسان، لكن فايق صمد في وجه المحنة القاسية، ورفض الاعتذار للسادات لينال حريته – كما فعل غيره – وعندما خرج، أخيراً، إلى رحابة الحرية لم ينشغل بالثأر الشخصي، إذ كان مهموماً باستكمال مسيرة بدأها في العمل العام في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، قبل أن يُسجن.

 

وقبل نحو عام، أصدر فايق مذكراته التي عنونها “مسيرة تحرر”، ليوثق رحلته، بداية من نشأته في مدينة المنصورة والقاهرة، ثم دراسته بالكلية الحربية، والتحاقه بالاستخبارات المصرية بعد 23 ثورة تموز (يوليو) 1952؛ حيث أدار ملف أفريقيا، ثم أصبح مديراً لمكتب الشؤون الأفريقية الآسيوية في رئاسة الجمهورية، وبعد ذلك عيّن وزيراً للإرشاد القومي (الإعلام)، ووزير دولة للشؤون الخارجية في 1970، وصولاً إلى مأساة سجنه، وأخيراً تجربته الثرية في العمل الحقوقي أفريقياً ومحلياً.

 

والحقيقة أننا إزاء شخصية محيرة للغاية، فهو الرجل القادم من قلب نظام سلطوي، لكن لم يعرف بأي مظهر من مظاهر الاستبداد عنه في العمل العام، كما أنه كان مثل كثيرين حول عبد الناصر، حيث كان معيار الثقة حجر الزاوية في الاختيار، لكن في الوقت نفسه كان “كفؤاً” و”نزيهاً” بشهادة الخصوم قبل الأنصار.

 

ورغم تاريخه الحافل بالأحداث والشخصيات، يُعرف فايق بالتحفظ في أحاديثه العامة، متسلحاً في ذلك بحرص ضابط المخابرات القديم، ودهاء السياسي المتمرس؛ فلا يبوح سوى بالنزر القليل من الوقائع الرسمية، ولا عجب أن يعلق البعض على مذكراته، بأنه “تكلم ولم يتكلم”، في إشارة إلى ندرة التفاصيل الشخصية، والمعلومات الحصرية التي كشف عنها.

 

كان التحدي إذاً أن يتحدث محمد فايق لـ”النهار” ببعضٍ مما أمسك عنه لسانه طويلاً؛ لذا حاولنا في هذا الحوار أن يتكلم الرجل على راحته، بعيداً من محاذير رجل الأمن السابق والسياسي المخضرم.

 

تمتع فايق بثقة كبيرة من الرئيس عبد الناصر أهّلته لشغل مناصب عدة

 

توزير مباغت

كان استقبال السيد محمد فايق بالغ الألفة والمودة، لكن اللافت أن الرجل كان دقيقاً للغاية في موعده. ورغم أن تسعين عاماً ونيفاً قد انقضت من عمره، إلا أنه كان حاضراً بذهنٍ صافٍ. وفي غضون دقائق أخذ الحديث يتدفق بسلاسة عن جميع الملفات، حتى مال الحوار نحو الملف الأكثر إثارة، وهو ملف الإعلام.

 

تدرج في الوظائف العامة بداية من عمله بجهاز المخابرات العامة في أعقاب تأسيسه بعد “ثورة تموز (يوليو)”، وأشرف على إدارة ثلاثة ملفات مهمة: أفريقيا، ثم آسيا، وأخيراً أميركا اللاتينية، ويحكي فايق في مذكراته أن عبد الناصر باغته وعيّنه وزيراً للإرشاد القومي (الإعلام) بينما كان في رحلة عمل إلى آسيا، دون أن يأخذ رأيه.

 

قرار عبد الناصر المفاجئ يعكس ثقته الكبيرة في محمد فايق، التي بدأت قبل “ثورة يوليو”، بالإضافة إلى أنها تطرح تساؤلاً منطقياً؛ هل تكفي الثقة وحدها معياراً لتعيينه وزيراً؟ خاصة أن فايق نفسه يقول إنه لم يكن لديه خبرة سابقة في مجال الإعلام، ولم يكن سعيداً بهذا التعيين في بادئ الأمر.

 

طرحنا السؤال المشاغب على السياسي المخضرم، فأجاب بهدوء: “هذا سؤال جيد للغاية، لكن يجب أن أوضح أولاً أن عملية تعيين أي وزير كانت تجري وفقاً للبروتوكول المتعارف عليه؛ حيث يسبق التكليف الرسمي مقابلات معلنة بالطبع، لكن في ما يخص تكليفي بوزارة الإعلام، قد يختلف الأمر بعض الشيء. كنت شديد القرب من عبد الناصر، وقبل سفري لآسيا جمعتني به جلسة نقاش طويلة، كما كان لدي فهم جيد للغاية لاستراتيجية الدولة حينها، وكنت مرتبطاً وملتزماً بها، فكانت هذه أمور لا تحتاج إلى سؤال أو استطلاع”.

 

يتابع: “أرسلت إلي برقية أثناء رحلتي لآسيا، تتضمن خبر التكليف بالوزارة، لكن لم أتمكن من الاطلاع عليها إلا في ماليزيا. كانت وزارة الإعلام، حينئذ، ضمن الوزارات السيادية التي يعين الرئيس وزراءها، وليس رئيس الوزراء، فكان قربي من الرئيس ونجاحي في المهام التي كُلفت بها سابقاً سبباً لهذا التكليف”.

 

وعودة لجذور علاقته بالرئيس، يروي فايق لـ”النهار” أن ثمّة معرفة قديمة جمعته بجمال عبد الناصر، ومدت جسور الثقة بينهما مبكراً؛ إذا كان ناصر أستاذه في الكلية الحربية، ثم خدم معه في الجيش بعد التخرج، ويشير إلى أن الرئيس تلمس فيه الحس الثوري منذ بدايات النقاش معه قبل “ثورة يوليو”. ربما تكشف هذه العلاقة القديمة طبيعة الثقة العميقة بين الرجلين، إلى درجة أن يعينه ناصر وزيراً دون استشارته.

 

مع أنديرا غاندي في زيارة الهند أيلول (سبتمبر) 1966

هيكل وفايق

علاقة الكاتب والصحافي البارز محمد حسنين هيكل وفايق قديمة، والمشترك الواضح بينهما هو ثقة عبد الناصر المطلقة فيهما، بالإضافة إلى التقارب في العمر والذكاء والنجاح المهني، لكن اللافت – لمن يقرأ مذكرات فايق – أن علاقته بهيكل كانت مبهمة للغاية، لا سيّما فترة توليه وزارة الإعلام عام 1965، وهي ذروة نفوذ هيكل في ملف الإعلام. وعند مطالعة هذا الجزء من المذكرات، تشعر بأن ثمة كواليس ما تختبئ خلف سطور الوزير الأسبق. طرحت هذا الهاجس عليه.

 

يقول إنه تعامل مع هيكل انطلاقاً من كونه سياسياً يستفيد من آراء صحافي بهذه الأهمية وخبراته، ويضيف: “كان الرئيس حريصاً أيضاً على أن تكون علاقتي بهيكل قوية، وكنت أدعوه في بعض الاجتماعات لأستمع إلى رأيه، لكن كانت هناك مناوشات تحدث بين وقت وآخر”.

 

ويحكي محمد فايق أن إحدى تلك المناوشات عندما كان وزيراً للإعلام. كان الرئيس يعطي خبراً لهيكل لصياغته وتوزيعه على الصحف، وهو المعروف ببراعته في صياغة أفكار عبد الناصر. من المفترض أن يوزع هيكل الخبر على الصحف في الوقت نفسه، لكنه كان يؤخره لديه حتى تنفرد به “الأهرام” التي كان يرأس تحريرها، بالنشر في الطبعة الأولى، ثم يرسله إلى بقية الصحف، فيصبح الخبر بلا قيمة لدى الصحف الأخرى بعدما نشرته “الأهرام”.

 

يقول وزير الإعلام الأسبق إن “هذا الأمر أغضب كثيرين من رؤساء التحرير، لدرجة أن موسى صبري رئيس تحرير “الأخبار”، جاءني باكياً بسبب احتكار هيكل لتلك الأخبار”، يستطرد: “تحدثت إلى هيكل أكثر من مرة، لكنه لم يستجب، فقررت وقف طباعة “الأهرام” حتى يعدل عن هذا السلوك. وكان هذا حدثاً جللاً، لدرجة أن هيكل اشتكى لوزير الداخلية شعراوي جمعة، الذي أخبره أنه لا يستطيع التدخل في المسألة”.

 

ومن بين الوقائع الأخرى، أن هيكل كان يوزع “الأهرام” في الخارج لتحصيل العملة الصعبة لمصلحة مؤسسته، رغم أن وزارة الإعلام لديها شركة توزيع خارجي، ولم يستجب هيكل لطلب وزير الإعلام بأن توزع “الأهرام” من قبل الشركة مثل بقية الصحف، فقرر فايق شراء الصحيفة من السوق المحلية بمجرد توزيعها، وكان لدى الشركة سرعة أكبر من “الأهرام” في التوزيع الخارجي، وتالياً، خسرت مؤسسته التوزيع المحلي والخارجي، فاشتكى لوزير الداخلية، لكنه لم يتدخل هذه المرة أيضاً، فاضطر للرضوخ وتوزيع الأهرام عبر الشركة التابعة للوزارة”.

 

مذكرات محمد فايق “مسيرة تحرر”

يقول فايق إن هذه الخلافات كانت تتلاشى سريعاً وتصفو الأجواء بينهما، لكن لم يكن الأمر يخلو من خلافات بين هيكل وعلي صبري، نائب الرئيس المصري، ويوضح: “كان هيكل يعتقد أننا جميعاً شلة واحدة، لكن هذا غير صحيح، إذ لم أكن ضمن أي شلة في المطلق، فقد كانت مواقفي مركبة، تتغير وفقاً لما أراه صحيحاً”.

 

منذ أحداث قضية 15 أيار (مايو) 1971، التي سُجن فيها محمد فايق، لم يجمعه بهيكل أي لقاء، حتى التقى الاثنان في سجن المزرعة في اعتقالات أيلول (سبتمبر) عام 1981، كان فايق قد أفرج عنه قبل نحو ثلاثة أشهر فقط، وأعيد اعتقاله مجدداً بسبب تأسيس دار نشر “المستقبل العربي”.

 

يقول فايق إنه في هذا الوقت لم يعاتب هيكل على موقفه في أحداث 15 أيار، وانحيازه للسادات لأنه نفسه اعترف بالخطأ، حين قال له في السجن “إننا جميعاً أخطأنا بعد وفاة الرئيس عبد الناصر”. اعتبر فايق أن هذا الاعتراف اعتذار كاف عما بدر منه، لا سيّما الحملة الإعلامية التي شنها على الفريق محمد فوزي.

 

في الحلقة الثانية والأخيرة من حوارنا مع محمد فايق يدور الحديث حول تجربته مع القارة السمراء؛ إضافة إلى مسيرته في ملف حقوق الإنسان والحريات بعدما شغل منصب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر أثناء الأحداث المضطربة التي تلت تظاهرات 30 من حزيران (يونيو) 2013.