أزمة قضائة في تركيا.
تفاقمت الأزمة بين الهيئات القضائية العليا في تركيا، بعدما استأثرت بصدارة الاهتمامات في البلاد منذ أكثر من أسبوع، مع مؤشّرات لتحوّلها إلى مسألة سياسية على خلفية تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث من المتوقع أن يكون هيكل المحكمة الدستورية ووظائفها على جدول الأعمال السياسي في الأيام المقبلة.
وبدأت الأزمة مع تقديم الغرفة الجنائية الثالثة لمحكمة الاستئناف العليا شكوى جنائية ضدّ أعضاء المحكمة الدستورية الذين أقرّوا بوجود انتهاك لحقوق النائب عن حزب العمال التركي جان أتالاي.
ومن المعروف أنّ القرارات السابقة للمحكمة الدستورية بشأن ملفات أخرى مشابهة لقضية أتالاي كانت قد أزعجت حزب العدالة والتنمية وشريكه حزب الحركة القومية، ما يعني أنّ القرار الحالي يمكن أن يمثّل فرصة للحكومة التركية لإعادة تنظيم صلاحيات المؤسسة القضائية الأعلى في البلاد.
وأعلن الرئيس التركي في تصريحات للصحافيين خلال عودته من أوزبكستان، تأييده لمحكمة الاستئناف العليا في ما يتعلق بالأزمة القضائية الأخيرة، قائلاً إنّ المحكمة الدستورية “بدأت أخيراً في ارتكاب العديد من الأخطاء، واحداً تلو الآخر”.
في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، قرّرت الغرفة الجنائية الثالثة في محكمة الاستئناف العليا تقديم شكوى جنائية ضدّ أعضاء المحكمة الدستورية، التي قضت بضرورة إطلاق سراح النائب عن حزب العمال التركي في هاتاي (لواء اسكندرون)، جان أتالاي، معتبرةً الاستمرار في سجنه “انتهاكاً للحقوق”.
تمّ انتخاب المحامي جان أتالاي نائباً في الانتخابات العامة التي أُجريت في 14 أيار (مايو) الماضي، لكن، مع ذلك، لم يتمّ إطلاق سراحه بسبب الحكم عليه بالسجن لمدة 18 عاماً في قضية “حديقة غيزي”، على الرغم من قيامه سابقاً بالمرافعة عن متّهمي القضية كمحامٍ لهم.
تقدّم محامو أتالاي بطلب إلى محكمة الاستئناف العليا، مطالبين بالإفراج عن موكّلهم بعد العملية الانتخابية، استناداً إلى المادة 83 من الدستور، التي تنصّ على الحصانة التشريعية لأعضاء البرلمان، وهو ما رفضته المحكمة العليا.
وبعد قرار محكمة الاستئناف العليا، تقدّم جان أتالاي من خلال محاميه بطلب فردي إلى المحكمة الدستورية للنظر في قضيّته، والتي بدورها أقرّت بالإفراج عنه وتعليق المحاكمة.
لكن، عوضاً عن تنفيذ المحكمة الجنائية الثالثة عشرة في إسطنبول قرار المحكمة الدستورية وإطلاق سراح أتالاي، قامت بإرسال الملف إلى الغرفة الجنائية الثالثة بمحكمة الاستئناف العليا، التي رفضت الامتثال للقرار الصادر عن المحكمة الدستورية، متّهمة إيّاها بأنّها “انتهكت الدستور وتجاوزت صلاحياتها”، وقضت بتقديم شكوى جنائية ضدّ أعضاء المحكمة الدستورية الذين أصدروا قرار إطلاق سراح أتالاي.
وقضت الغرفة الجنائية الثالثة بمحكمة الاستئناف العليا بأنّ الحكم الصادر ضدّ النائب جان أتالاي ينضوي تحت المادة 14 من الدستور التركي الذي ينصّ على أنّه “لا يجوز انتهاك أي من الحقوق والحرّيات المنصوص عليها في الدستور من خلال أنشطة تهدف إلى تعطيل النظام السياسي. ولا يمكن الإضرار بسلامة الدولة غير القابلة للتجزئة مع أراضيها وأمتها وإلغاء الجمهورية الديموقراطية والعلمانية القائمة على حقوق الإنسان” معتبرةً هذه المبادئ فوق الحصانة البرلمانية.
وتجادل الدائرة الجنائية الثالثة بمحكمة الاستئناف العليا بأنّه إذا تمّ الامتثال لقرار المحكمة الدستورية بحق جان أتالاي، فإنّ أفراد منظمة فتح الله غولن، التي تعتبرها أنقرة ارهابية، أو قادة حزب العمال الكردستاني سيتمكّنون من التنصّل من العقوبات القضائية بالتحوّل إلى برلمانيين.
ما هي المحكمة الدستورية؟
تأسست المحكمة الدستورية كمحكمة عليا بموجب دستور عام 1961، متخذة الدساتير الأوروبية كمثال، وذلك لمنع تكرار الصراعات التي قادت تركيا إلى الانقلاب العسكري في 27 أيار (مايو) 1960. لكن عدداً من الحقوقيين الأتراك يرون أنّ الدستور التركي لم يتضمن بشكل كافٍ قيوداً كبيرة على صلاحيات البرلمان التركي، ما يعني إمكان قيام حزب سياسي يتمتع بالأغلبية في البرلمان بتمرير قوانين غير دستورية من دون أي عائق، كما يمكن للحكومة الحالية تمرير قوانين غير دستورية تهدف إلى الإجهاز على المعارضة أو تثبيت سلطتها وديمومتها.
لذلك، قامت الدساتير التركية المتتالية بمنح مجموعة من “الوظائف الأساسية” للمحكمة الدستورية تتمثّل في الإشراف على توافق القوانين التشريعية والقرارات الحكومية مع الدستور، والنظر في قضايا إغلاق الأحزاب السياسية، والقيام بعمليات التدقيق المالي للأحزاب ومحاكمة الأفراد.
وتُعتبر محكمة الاستئناف العليا، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى عهد السلطان العثماني عبد العزيز عام 1868 تحت اسم “ديوان الأحكام العدلية”، آخر سلطة تنظر في قرارات وأحكام المؤسسات القضائية عن طريق الاستئناف.
في المبدأ فإنّ صلاحيات وواجبات هاتين المؤسستين القضائيتين العاليتين لا تتعارض عادة مع بعضها البعض لاختلاف نوعية العمل الذي تقومان به.
لكن التعارض في العمل بينهما بدأ مع إقرار الاستفتاء على تعديل الدستور في 12 كانون الأول (سبتمبر) 2010 الحق للمحكمة الدستورية في تسلّم “طلبات فردية” يتقدّم بها أفراد وشخصيات لاستئناف قرارات صادرة عن المحاكم التركية المتخصّصة، ولذلك كإجراء أخير قبل التوجّه إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
ونصّت المادة 148 من الدستور الجديد على أنّه “يجوز لكل شخص تقديم طلب إلى المحكمة الدستورية على أساس قيام السلطة العامة بانتهاك أي من الحقوق والحرّيات الأساسية المكفولة في الدستور، ضمن نطاق الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR)”، وذلك بعد استنفاد سبل الانتصاف القانونية العادية.
كما نصّت المادة 153 من الدستور على أنّ “قرارات المحكمة الدستورية نهائية، وتنشر فوراً في الجريدة الرسمية وتكون ملزمة للهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية والسلطات الإدارية والأشخاص الطبيعيين والاعتباريين”.
وبهذا التعديل الدستوري، تمّ إدخال نظام “الطلب الفردي” لتصفية آلاف الملفات التي كانت في طريقها إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وذلك بضغط من منظمة فتح الله غولن، التي كانت شريكة الرئيس التركي أردوغان في حينه، حيث تمّ تطبيق النظام للمرة الأولى في 23 أيلول (سبتمبر) 2012.
أوجدت المحكمة الدستورية “حلولاً” للعديد من الأزمات التي عاشتها تركيا في العديد من قرارات انتهاك الحقوق والحرّيات. فبعد صدور قرار انتهاك للحقوق في “قضية المطرقة” (باليوز) التي شملت 237 متهماً في عهد الشراكة بين الحكومة التركية وتنظيم غولن، نجحت المحكمة في اطلاق سراح العديد من الشخصيات العسكرية المحكوم عليهم، بينهم جنرالات كبار.
وبالمثل أصدرت المحكمة قرارات بالبراءة بحق الجنرال إيلكر باشبوغ والنائب والصحافي مصطفى بالباي في قضية أرغينيكون. كما تمّ إطلاق سراح إنجين آلان، عضو البرلمان عن حزب الحركة القومية في تلك الفترة، بقرار من المحكمة الدستورية أيضاً.
وبقرار من المحكمة الدستورية تمّ إطلاق سراح الصحافيين جان دوندار وإردم غول، اللذين اعتُقلا لنشرهما صور شاحنات الاستخبارات التركية الحاملة للأسلحة إلى سوريا في عام 2015.
كما وصفت المحكمة معاقبة “أكاديميي السلام” الذين أدلوا ببيان بعنوان “لن نكون طرفاً في هذه الجريمة” بموجب قانون مكافحة الإرهاب، بأنّها انتهاك للحقوق، وتمّت تبرئتهم وتمكّن بعضهم من العودة إلى وظائفهم.
كما تدخّلت المحكمة أيضاً في أعقاب قرارات بعض المحاكم بعدم السماح للمحاميات المحجبات حضور الجلسات، باصدارها حكماً في عام 2014 اعتبر هذه الممارسات والأحكام انتهاكاً للحريّات الدينية.
وأصدرت المحكمة أيضاً قرارات بتبرئة النائب والصحافي أنيس بربر أوغلو من حزب الشعب الجمهوري والنائب عمر فاروق غرغرلي أوغلو من حزب الشعوب الديموقراطي، والكاتبين محمد ألتان وشاهين ألباي.
حرب حكومية على المحكمة الدستورية
وبينما تؤيّد أحزاب المعارضة والنقابات الحقوقية قرار المحكمة الدستورية بحق أتالاي وغيره، ترى الحكومة التركية في التعديل الدستوري سبيلاً لحلّ الأزمة القضائية المتفجّرة في البلاد.
بعد الجدل الذي أثاره ملف النائب جان أتالاي، زادت القناعة لدى الحقوقيين الأتراك باستعداد الحكومة لاتخاذ خطوات لمنع “الطلب الفردي” الذي تسبّب في الأزمة بين المحكمتين، وهي خطوة ستؤدي بحسب المحامين بازدياد عدد الملفات المرسلة إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
في الانتخابات البرلمانية الأخيرة حصل حزب العدالة والتنمية على 264 مقعداً، وشريكه حزب الحركة القومية على 50 مقعداً، وباقي أحزاب الائتلاف الحاكم في حزب الرفاه الجديد على 5 مقاعد، وحزب الدعوة الحرة (حزب الله التركي) على 4 مقاعد، وحزب اليسار الديموقراطي على مقعد واحد في البرلمان، أي أنّ إجمالي عدد مقاعد شركاء تحالف الشعب هو 324 مقعداً.
ويشترط لقبول مقترح تعديل الدستور دون طرحه للاستفتاء الحصول على 400 صوت، بينما يتطلّب عرضه للاستفتاء الحصول على 360 صوتاً، ما يهدّد باستمرار الأزمة القضائية الحالية وتفاقمها في ظل غياب مؤشرات للتوافق بين السلطة والمعارضة في الملف المذكور.
لذا، فإنّ الدافع وراء الشكوى الجنائية للمحكمة العليا قد يكون إجبار أعضاء المحكمة الدستورية التسعة المستهدفين على الاستقالة، من خلال إعلان الحرب عليهم بطريقة غير مباشرة، وذلك ردّاً على العديد من القرارات المتناقضة مع رغبة الرئيس التركي وحكومته، إضافة إلى ردّ فعل الحكومة على إعادة انتخاب أعضاء المحكمة زهدي أرسلان، الذي اقترب من التقاعد خلافاً لرغبة أردوغان في انتخاب عرفان فيدان.
يُذكر أنّه على الرغم من مرور 11 عاماً على منح المحكمة الدستورية الحق في البت بالدعاوى الفردية، إلاّ أنّ عدد القضايا المرفوعة ضدّ تركيا في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يشهد تزايداً متواصلاً. وبحسب بيانات وزارة العدل، فإنّه مع تطبيق التعديل الجديد انخفضت الدعاوى المرفوعة ضدّ تركيا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان من 16 ألفاً و876 طلباً في نهاية عام 2012، إلى 8 آلاف و488 طلباً في عام 2015. لكن، بعد محاولة الانقلاب في عام 2016، ارتفع عدد الملفات ليصل في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2021 إلى 15 ألفاً و251. وفي عام 2021 صدر 76 قرار مخالفة بحق تركيا، لتحتل أنقرة المرتبة الرابعة بعد روسيا وأوكرانيا ورومانيا في العام المذكور.
وفي العام الماضي، ارتفع العدد الإجمالي للملفات المرفوعة ضدّ تركيا في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى 20 ألفاً و 100.