كان مجرد إلقاء النظر على البقايا الإسمنتية لـ” قبة القنبلة الذرية” في هيروشيما كافياً ليصيبني بالرهبة، رهبة اعتقدت سابقاً أنني لن أشعر بها، إذ تساءلت بيني وبين نفسي، مخطئاً بالطبع، ما الذي سيؤثر بي كسوري عاصر بشكل مباشر، وموثقٍ صورةً وصوتاً، مقتلَ مئات الآلاف وتهجير الملايين وخراب العمران في بلده؟
كانت المصادفة هي ما قادني بعيد وصولي إلى هيروشيما لأعبر فوراً بجانب أشهر معالمها: قبة غينباكو أو قبة القنبلة الذرية. فخلال عبوري الطريق الواصل بين محطة القطار الرئيسة والشقة الفندقية الصغيرة التي سأنزل بها، وجدت نفسي أمرّ بمحاذاة هذا المعلم ذائع الصيت، والذي ما هو إلا عبارة عن بقايا بناء تجاري صمد بشكل غريب أمام هول الانفجار الأول من نوعه في التاريخ. وللدقة، لم يصمد من البناء (معرض الترويج الصناعي لمحافظة هيروشيما المشيّد عام 1914) إلا بعض جدرانه وأعمدته الخرسانية والهيكل الحديدي لقبة البناء، هذا فيما مُسحت المدينة عن بكرة أبيها تقريباً.
كان مجرد إلقاء النظر على البقايا الإسمنتية هذه كافياً ليصيبني بالرهبة، رهبة اعتقدت سابقاً أنني لن أشعر بها، إذ تساءلت بيني وبين نفسي، مخطئاً بالطبع، ما الذي سيؤثر بي كسوري عاصر بشكل مباشر، وموثقٍ صورةً وصوتاً، مقتلَ مئات الآلاف وتهجير الملايين وخراب العمران في بلده؟ بيد أن مشهد البناء القبيح المطل على نهر موتاياسو كان مؤثراً بالفعل، وأعاد حالاً إلى ذهني تلك الصور التي لطالما شاهدتها منذ اليفاعة المبكرة في أفلام وثائقية للحرب العالمية الثانية، ولمآسيها، ولختامها الأكثر وحشية وفظاعة.
الإرث الذري
والحال أن إرث القنبلة الذرية تخلّل معظم أوقات زيارتي للمدينة، التي دامت أقل من 72 ساعة، فأثناء توجهي مساء اليوم نفسه لأحد أشهر المطاعم المتخصصة بوجبة الأوكونومياكي التي تشتهر بها هيروشيما، قادتني المصادفة مجدداً للمرور بشاخصة رخامية صغيرة وغير لافتة للانتباه في شارع جانبي بالغ الهدوء، تحتوي نصّاً قصيراً مرفقاً بصورة لا أكثر. وسرعان ما اكتشفت أن هذا اللوح يشير إلى المكان الذي انفجرت عنده في السادس من آب/ أغسطس عام 1945 القنبلة الذرية “ولد صغير Little Boy” على ارتفاع نحو 180 متراً فوق هذه النقطة بالتحديد.
أما يومي الثاني في المدينة، فانطلق مباشرة باتجاه حديقة السلام التذكارية الملاصقة لقبة غينباكو. هنا تمكن مشاهدة مجموعة من النصب المخصصة لجوانب متعددة على علاقة مباشرة بالانفجار الذري، أشهرها النصب التذكاري لضحايا القنبلة المكون من صندوق حجري تظلله كتلة إسمنتية تشبه الخيمة أو سرج الحصان. على الصندوق من الخارج، نُقشت عبارة: “ارقدوا في سلام، فنحن لن نكرر هذا الخطأ مرة أخرى”، بينما خُصص داخل الصندوق لأسماء 297684 شخصاً، هم ضحايا القصف الذري عموماً من مختلف الجنسيات.
لكن ما يثير الأسى أكثر من غيره في تلك الحديقة، نُصب السلام للأطفال، الذي يخلد ذكرى القصة المأساوية لساساكي ساداكو. فالأخيرة كانت طفلة في الثانية من عمرها عندما تعرضت للإشعاع الناتج من القصف الذري، وفي سن الثانية عشرة شُخصت بالإصابة بسرطان الدم. آمنت ساداكو بأنها إن صنعت ألف قطعة أوريغامي على شكل طائر الكركي فستُشفى، لكنها توفيت بعد ثمانية أشهر من تشخيصها، وبعدما أنجزت أكثر من 1300 طائر، بعضها من الأوراق التي كان يُغلف بها دواؤها.
عقب وفاتها، انطلقت حملة في جميع مدارس البلاد بمبادرة من زملاء مدرستها الابتدائية لجمع الأموال وبناء تمثال لـ”أطفال القنبلة”. وحتى يومنا هذا، يجلب تلامذة المدارس قطعاً من الأوريغامي الملون على شكل طائر الكركي عند زيارة النصب الذي اكتمل بناؤه عام 1958، لكن المشهد المزركش لا يبعث على البهجة بالطبع.
بقيت الثيمة النووية ملازمة لتجوالي، حتى عند زيارتي لقلعة هيروشيما التاريخية، وليس ذلك فقط لأن القلعة الحالية ما هي إلا نسخة مقلدة عن القلعة الأصلية المبنية عام 1589، والتي اختفت بدورها مع الانفجار، ولكن لأن شجرة معمّرة ملفوفة بحبال ومدعّمة بقطع خشبية كعجوز مصاب في قصف جوي أو مدفعي، استقبلتني عند مدخل القلعة كأحد الشواهد النادرة الناجية من قنبلة العام 1945. هذا فيما احتوى حرم القلعة قبواً صغيراً كان أحد مراكز عمليات الدفاع الجوي. وتقول إحدى الروايات إن طالبات مدرسة ثانوية مكلفات بمهمات دعم عسكري متعددة كنَّ أول من أرسل تقارير عن الانفجار إلى العاصمة طوكيو من هذه الغرفة بالضبط.
طابع سياحي متناقض
لكن للسياحة في هيروشيما وجهاً آخر تماماً، إذ يقصد الكثير من زوار المدينة جزيرة مياجيما المجاورة وضريح إتسوكوشيما، أحد معابد ديانة الشنتو، وهذا الضريح بلغ من الشهرة حداً حتى باتت الجزيرة تعرف باسمه: جزيرة إتسوكوشيما. أما سبب فرادته فيعود لبنائه فوق الماء، فتبدو بوابته وكأنها عائمة فوق البحر في أوقات المد.
أجواء إتسوكوشيما متباينة تماماً مع روح حديقة السلام التذكارية وقبة غينباكو، هنا لا يتوقف المارة لتقديم انحناءة إجلال أمام شعلة السلام مثلاً، بل يصطف طابور طويل مرح من السياح المحليين والأجانب لالتقاط صورة تذكارية من زاوية مناسبة أمام بوابة الضريح البرتقالية اللون، بينما تتردد ضحكات الفتيات المراهقات وصيحاتهن العابثة وهن يحاولن الابتعاد عن عشرات الغزلان التي تتجول بحرية في شوارع الجزيرة وتحاول الحصول على الطعام من السياح بعدائية في بعض الأحيان.
على الجزيرة أيضاً، يمكن ممارسة نشاطات متعددة، تتراوح بين التسوق أو تناول الطعام في سوقها التقليدي، أو ممارسة المسير وركوب التلفريك نحو جبل ميسن- أعلى قمة في إتسوكوشيما. وهناك، لم أستطع أن أزيح عن رأسي فكرة أن المدينة التي أتأملها من أعلى القمة إنما بنيت كلها فوق الركام، ومن الصفر، قبل عقود فقط.
كنت فضلت تخصيص يوم لزيارة الجزيرة بدلاً من رحلة بعيدة ومضنية إلى ناغازاكي، المدينة الأخرى التي ضربتها قنبلة نووية في الحرب العالمية الثانية، هذا على الرغم من رغبتي في الوقوف على شيء آخر هناك بالإضافة الى الذكريات النووية، وهو الاضطهاد الوحشي لمجتمعها المسيحي.
عرفت ناغازاكي المسيحية قبل غيرها من مناطق اليابان مع وصول المبشّرين اليسوعيين البرتغاليين إليها في النصف الثاني من القرن السادس عشر، ومع تحول عدد من الأمراء الإقطاعيين إلى المسيحية، وبالتالي تحول الكثير من الفلاحين، طوعاً وقسراً، إلى هذا الدين الجديد، أصبحت المدينة “روما اليابان” بحلول بدايات القرن السابع عشر.
لكن تغيرات سياسية وإرثاً طويلاً من العزلة ورهاب الأجانب قلبت هذا المسار، وسرعان ما بدأ قمع مديد شمل القادة الدينيين والمؤمنين من عامة الشعب معاً، فأعدم رهبان كثر وحُظرت المسيحية على النطاق الوطني، بل ومورست عادة سنوية تُجبر الرعايا على الدوس على ألواح تحمل صور المسيح ومريم.
في صباح مغادرتي لهيروشيما، قررت أن أعرّج على قبة القنبلة وحديقة السلام مرة أخيرة، هذه المرة صدفت مجموعة ناشطين يابانيين يمارسون نشاطاً توعوياً، وتبادلت معهم حواراً قصيراً. أخبرني أحدهم بإنكليزية ثقيلة أنني ثاني زائر سوري يقابله في هذا الموقع خلال أقل من عام. لا أعرف بالطبع ما هو موقف ابن بلدي هذا وردة فعله على ما شاهد هنا، وكنت أساساً قد نسيت هذا الحوار القصير قبل أن أستعيده قبل أسابيع عندما أعلنت لجنة جائزة نوبل فوز المنظمة التي ينتمي إليها هؤلاء الناشطون تحديداً، أي منظمة “نيهون هيدانكيو”، بجائزة نوبل للسلام لعام 2024 تقديراً “لجهودها في مجال تحقيق عالم خال من الأسلحة النووية”.