هذا الشَبَقُ التدميريّ الذي يختبره رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في غزة، قتلاً وتدميراً وحصاراً، ليس متأتيّاً من فراغ أو من لحظة غضب وانفعال وانتقام آنيّة، بل له مرتكزاته الأيديولوجيّة من ناحية، والسيكولوجيّة من ناحية ثانية. وأورد في هذا السياق بعضاً منها، استناداً إلى تصوّرات نتنياهو نفسه في كتابه “مكان بين الأمم – إسرائيل والعالم” (صدرت طبعته العربية الأولى عام 1995 عن دار الجليل، في عمّان، بترجمة لمحمد عودة الدويري)، وإلى “دراسة نفسية لشخصية بنيامين نتنياهو” أنجزها وليد عبد الحيّ لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت عام 2021.
تطالعنا، بدءاً، في كتاب نتنياهو التزويريّ التلفيقيّ للتاريخ والجغرافيا، مفارقةٌ عبثيّة تدلّ بوضوح على فطرة النفاق والدَجَل لديه، إذ يروي وقائع زيارته مع وفد إسرائيليّ معسكري أوشفيتز وبركناو في بولندا، حيث تعرّضت أعداد كبيرة من اليهود، بين مجموعاتٍ وأقوام أخرى، لأعمال إبادة رهيبة على أيدي النازيين. هنا يقول نتنياهو حرفيّاً: “قبل وقوفي هناك، في بركناو، لم أكن أتخيّل كم كان صغيراً وحقيراً ذلك المكان. لقد كان بالإمكان وقف العمل في ذلك المسلخ من خلال طلعة جوية واحدة يقوم بها سربٌ من القاذفات، ولم يكن ذلك الأمر يتطلّب جهداً خاصاً، إذ إنّ دول الحلفاء قصفت أهدافاً متنوّعة قريبة من هذا المعسكر. لم تكن هنالك حاجة سوى لإعطاء أمر بسيط واحد، لإحدى الطائرات لكي تنحرف قليلاً، وتوقف تلك المجزرة. لكنّ ذلك الأمر لم يُعطَ أبداً. يعتقد كثيرون من زوّار بركناو أنّ دول الحلفاء لم تكن تعلم بأنّ الألمان يبيدون، بصورة منهجية، كلّ يهود أوروبا. لكنّ تلك ليست هي الحقيقة”.
يستخدم في هذا المقطع نتنياهو عبارتي “المجزرة” و”الإبادة المنهجية”. يقف متباكياً على قومه من اليهود الذين تعرّضوا لمجازر وإبادات منهجية، ملقياً الملامة على قوات الحلفاء التي لم توقف تلك المجازر. تُرى من القادر اليوم على توصيف ما يرتكبه نتنياهو في غزّة بغير المجزرة والإبادة الممنهجة؟ هل ثمة توصيف آخر؟ هذا القاتل بالفطرة أليس كاذباً ودجّالاً ومنافقاً حين يبكي على ضحايا النازية ويرتكب اليوم بحقّ الشعب الفلسطينيّ ما هو من أفعال النازيين؟ يعاتب أيضاً دول الحلفاء التي لم توقف المجزرة النازية، كأنّه يكترث اليوم لمن يطالبه بوقف مجزرته الإباديّة، بل محرقته، في غزّة؟
رسّخت فكرة ممارسة القوة في ذهن نتنياهو بوصفها أمراً طبيعياً، بغض النظر عن مدى شرعيّتها، فالتاريخ تصنعه “الأحذية الثقيلة” بحسب جابوتنسكي
إن كنّا نريد معرفة الإجابات عن هذه الأسئلة تجدر بنا العودة إلى منابع تأثّراته الأيديولوجيّة (الجابوتنسكيّة بامتياز) بل حتى العائليّة، فهو مولود (بئس الساعة) عام 1949 لأب بولنديّ الأصل يُدعى بن صهيون مايلكوويسكي وكان من كبار مساعدي الصهيونيّ المتطرّف زئييف جابوتنسكي، ومن داعمي فكرة تهجير الفلسطينيين إلى خارج أرض فلسطين كي تبقى “دولة يهودية نقيّة”، وقد بدّل الأب اسم العائلة إلى نتنياهو (كان والده، أي جدّ بنيامين، حاخاماً يدعى ناتان). وكان والد نتنياهو محبطاً بعد هجرة العائلة إلى الولايات المتحدة من عدم القدرة على الاندماج في المجتمع الأميركي، حيث كان يعتبر نفسه مؤرّخاً، ولم يتمكّن من العثور على مركز وعمل يرويان طموحه، رغم إلقائه بعض المحاضرات في جامعة كورنيلّ الأميركية، حتى إن الجامعة العبرية في القدس رفضته، فعاد خائباً إلى الولايات المتحدة وظلّ طوال حياته يحمل ضغينة شديدة لحزب العمل الإسرائيليّ وللنخب الفكرية في الكيان الصهيونيّ، فزرع في أبنائه فكرة أن الكلّ “عدوّ له”.
وتركت هذه الفكرة أثراً عميقاً في بنيامين الذي أضحى يرى (حتى الساعة) أنّ المؤامرة في كل مكان، وأنّ العالم فائق القسوة ولا مكان فيه للإيثار أو عمل الخير أو الصداقة الحقيقية، وأنّ البشر يعيشون في صراع داروينيّ مستمرّ من أجل البقاء. كما تشرّب بنيامين من والده ذاك الشعور بأنّه دخيلٌ على المؤسسة السياسية، وبأنّه كان في بداياته معزولاً رغم تميّزه (بحسب نظرته إلى نفسه)، لذا تملّكته عقدة أنّ جميع زملائه السياسيين منافسون له، ومن هنا انتقامه المستمرّ منهم. أي لا حليف ولا صديق. ولعلّ عمق إيمانه بالمنظور الداروينيّ الذي زرعه الأب (العلمانيّ الملحد) في أبنائه يفسّر رؤية بنيامين بأنّ غالبية العرب، بمن فيهم عرب 1948، يشكلون تهديداً وجودياً لـ”إسرائيل”، واتسع مضمون فكرة “التهديد الوجودي” ليشمل أركان العالم كلّه، وهو يردّد نغمة “التهديد الوجودي” في كل ظرف وكلّ مناسبة.
ومن ضمن مجموعة هواجس وأفكار مركزيّة في خطاب نتنياهو السياسيّ: اعتبار الأمن الإسرائيلي مهدّداً من كل حدب وصوب. “الإرهاب” الفلسطيني. معاداة السامية. الخطر الإيراني وحزب الله. معاداة الأمم المتحدة “إسرائيل”. التذكير المستمرّ بالهولوكوست. فشل أوروبا في فهم “التهديد” الذي تتعرّض له “إسرائيل”. وترى الدراسات النفسية الخاصة أن هذه الأفكار المتكرّرة في خطاب نتنياهو هي نتيجة الفكرة التي غرسها الأب في ذهنه، أنّ “العالم كلّه يكرهنا”. ولذا أي نقد لـ”إسرائيل” هو جزء من “العالم يكرهنا”. وحتى أمّ بنيامين، سيليا، التي كانت متزوّجة من نوح بن توفيم قبل زواجها من والد نتنياهو، كان تأثيرها في تدريب أبنائها على “الانضباط وممارسة القوة”، كما زرعت فيهم إحساس التفوّق والنجاح. وفي خلاصة الأمر، زرع والدا بنيامين في ابنهما مسألتي كراهية الآخر غير اليهودي، ومن ثم الصراع بمفهومه الداروينيّ، وهو الظاهرة الطبيعية في هذا الكون، أي البقاء للأصلح. لذا رسخت فكرة ممارسة القوة في ذهنه بوصفها أمرا طبيعيّا، بغض النظر عن مدى شرعيتها، فالتاريخ تصنعه “الأحذية الثقيلة” بحسب قول جابوتنسكي الذي ربطته بوالد بنيامين علاقة وطيدة.
السعي إلى السلام هو نقيض اقتناع نتنياهو بصراع البقاء الذي ينبغي أن يستمر إلى الأبد
في جوانب العقيدة الصهيونيّة الأشدّ تطرّفاً لدى نتنياهو، يمكن أن نخلص إلى النقاط الآتية في كتابه:
العداء للعرب، استناداً إلى أقوال الحاخام الإسباني يهودا هليفي الذي يورد نتنياهو نظرته إنّ “عودة اليهود إلى أرضهم هي الأمل الوحيد لوضع حد لمعاناتهم على أيدي العرب الذين لم يشهد اليهود أمة أكثر عداءً منهم، ولا أمّة أساءت إليهم وفرّقتهم وقلّلت عددهم وحقّرتهم أكثر منهم”. ويمضي هذا الحاخام أبعد، بحسب نتنياهو إلى اعتبار أنّ “الإقامة في أرض إسرائيل واجب ديني، مكلّف به كلّ إنسان يهودي (…)”. إنّه “واجب دينيّ” ما يؤمن به بعصبيّة مريضة العلمانيّ الملحد بنيامين نتنياهو، الذي يستشهد أيضاً بفريدريك الأكبر الذي طلب من طبيبه أن يأتيه ببرهانٍ على وجود الله، اكتفى هذا الطبيب بالقول: “وجود اليهود هو الدليل على وجود الله”.
الإسقاط الحاسم لفكرة السلام، إذ يقول نتنياهو بوضوح: “يؤمن إسرائيليون كثر بإمكان إنهاء النزاع العربي – الإسرائيلي بالكلام الفارغ، كأننا لا نعيش في ذروة عاصفة صحراوية تغمرنا بخليط من التعصّب والعداء، وكأنّنا نعيش في الغرب المتوسط الأميركي، وليس في الشرق الأوسط (…)”. إنّ الصراع المستمرّ يتطلب جهداً قومياً طويل المدى، وربما ندخل، بين حين وآخر، في مجابهات دولية شديدة. حتى لو توصلنا إلى إنهاء الحرب مع العرب، وأحللنا السلام الرسميّ معهم، وحتى لو نتج عن ذلك انخفاض حقيقي في مستوى النزاع العربي- الإسرائيلي فلن تتلاشى نهائياً أخطار الحرب والمجابهات في المستقبل، تماماً مثلما لم تنتهِ كلياً النزاعات بين الشرق والغرب”. يرى نتنياهو، إذن، أنّ السعي إلى السلام هو نقيض اقتناعه بصراع البقاء الذي ينبغي أن يستمرّ إلى الأبد، لتبقى “الأمة” الإسرائيلية التي، يضيف: “تجد صعوبة في التكيّف مع ظروف واقع السياسة الدولية، فميول السياسة الإسرائيلية للهرب إلى الخيال تنبُع من عدم قدرة اليهود على التسليم بوجودهم الدائم مع الصراعات، ومع ضرورة الاحتفاظ دائماً بقوة يهودية لمواجهة هذه الصراعات”. هو يلوم اليهود على قلّة صبرهم وعدم تسليمهم بديمومة الصراع، إلى الأبد!
مواجهة العالم وقواه العظمى، فبصريح العبارة يعلن نتنياهو في كتابه “أنّ فكرة واجب دولة ما بأن تبدي مقاومة شديدة لرغبة الدول العظمى أحياناً لا تخطر ببال هؤلاء الإسرائيليين الذين يميلون إلى الانحناء أمام أي ضغط دوليّ، سياسيّ أو اقتصاديّ، وهم يتساءلون: من نحن لنقاوم العالم كلّه؟ إذا كانت الدول العظمى تريد ذلك ما علينا سوى الرضوخ (…) إنّ عادة الانحناء والاستسلام التي اكتسبها الشعب اليهودي طوال سنوات التشرّد لا تزال سائدة إلى حدّ بعيد على الصعيد السياسيّ. وكما تنبّأ هرتزل في حينه إذ قال إنّ من أصعب التغييرات التي يمكن أن يجتازها الشعب اليهوديّ هي الإقلاع عن هذه العادات (…)”. دعوته واضحة وصريحة إلى مقاومة الضغوط الدولية على “إسرائيل”، وهذا تماماً ما يطبّقه نتنياهو في مواجهة العالم والرأي العام فيه، مستنجداً، مرّة أخرى، بجابوتنسكي، معتبراً أنّه “الوحيد من تلاميذ هرتزل الذي أدرك أهمية المقاومة السياسية، وقال إنّ من الممكن، ويجب، مقاومة الضغوط التي تتعرّض لها الصهيونيّة عبر ضغط مضادّ يكون موجّهاً ضد الحكومات الأجنبيّة، وجماهير المواطنين فيها، وللقيام بذلك ينبغي أن يُظهر اليهود روحاً قتالية في المعركة السياسية لا تقلّ عن تلك المطلوبة في المعركة العسكرية”. نتنياهو، وقبله والده، تلميذان نجيبان لأحد عتاة الصهيونية، جابوتنسكي، صاحب نظرية “الجدار الحديديّ” المعروفة.
يرى نتنياهو أنه يحقّ له استخدام أي أسلوب لبلوغ أهدافه، ولا يتورّع عن سحق خصومه حتى من رفاق حزبه الذين يشنّ عليهم هجوماً استباقياً لمنع وصولهم
أمّا أعطاب نتنياهو النفسيّة فتختصرها دراسة وليد عبد الحيّ بالآتي: أولاً، النرجسيّة (الأصحّ القول النرسيسيّة نسبة إلى نرسيس في الأسطورة اليونانية والذي أغرم بصورته المنعكسة على سطح الماء حتى وقع فيه وغرق)، فنجاح نتنياهو الشخصي يتقدّم على كلّ الاعتبارات الأيديولوجية التي يروّجها، إذ لديه أوهام القدرة على الإدراك أكثر من الآخرين الذين لا يمتدح أي فكرةٍ يطرحونها. ثانياً، العدوانية والمراوغة، فهو مقتنع بأنّ ميدان العلاقات الدولية محكوم بقانون الغاب، لذا يرى أنه يحقّ له استخدام أي أسلوب لبلوغ أهدافه، ولا يتورّع عن سحق خصومه حتى من رفاق حزبه الذين يشنّ عليهم هجوماً استباقياً لمنع وصولهم، متخلّياً عن حلفائه إذا استشعر أنهم سيؤثرون على مكانته. ثالثاً، إدمان الكذب، فالخداع بالنسبة إليه أمر مقبول في السياسة، ولا يخالجه أي تأنيب ضمير (طالما أنّه لا يملك مثله)، وحتى عندما يقول الحقيقة يبدو غير مقنع. كما أن ميله إلى الكذب، سواء في نطاق علاقاته الزوجية (تزوّج ثلاث مرّات) والنسائية (من يصدّق أنّ هذا القاتل الجزّار الشرس يتوسّل إلى إحدى زوجاته أن تسامحه على خيانته لها مع امرأة أخرى؟!)، أو في تعامله مع الرؤساء، أمران مؤشّران على أن الوفاء ليس في قاموسه، وأن الكذب مشروع في السياسة والعلاقات.
رابعاً، عقدة الشك، إذ يغلب لديه الشعور بعداء الآخرين له وبأنّه “ضحية”، ويرى في أصدقائه “خونة محتملين”، ويصفه أحد مستشاريه السابقين بأنّه “ليس شخصاً عقلانياً جداً، بل هو ضعيف جداً، غير واثق، منغلق جداً، يملك عدداً قليلاً جداً من الأصدقاء المقرّبين ومن الصعب أن يثق بأحد حتى بزوجته”. ويضيف مستشار آخر: “لديه نوع من عقدة النقص منذ المرحلة الباكرة، وهو يحاول دوماً إثبات نفسه بسبب شعور بنقص الأمان في شخصيته، فخلال فترة عملي معه كاد يرتكب أخطاء سخيفة في أحيان كثيرة، وعندما لم نكن نوقفه كان يرتكبها بالفعل”.
مثل سائر الطغاة والمجرمين الذين يعجّ بهم تاريخ البشرية، يعثر “ملك إسرائيل المُلهم” نتنياهو على مبرّرات ودوافع جرائمه فائقة الوحشيّة، تارة باسم اليهودية التي يستفيض في الكلام عنها في كتابه التلفيقيّ المنافق، وتارة أخرى باسم الفكرة الصهيونية ومشروعها الإحلاليّ والعنصريّ القائم منذ البدء على التسلّل الخبيث إلى أرض فلسطين ومن ثم مصادرة الأرض وارتكاب المجازر … إنّما في كلتا الحالتين، لا شك في أنّ القاتل يروي ظمأ إلى الدم والقتل، يحمله في تركيبه النفسيّ وأعطابه النرسيسيّة والعصابيّة، بحيث يمكن إدراجه بسهولة في قائمة أوحش طغاة التاريخ وأكثرهم جنوناً.