وقت كتابة هذا المقالة يترقب العالم بدء هدنة خلال الساعات المقبلة لوقف القصف الهمجي الإسرائيلي على غزة  لمدة أربعة أيام بعد 45 يوماً من القصف الوحشي الإسرائيلي الذي قتل البشر ودمر الحجر وهجّر أكثر من مليون ونصف من أهل غزة من بيوتهم ومناطقهم، وهو قصف لم يستثن المدارس والمستشفيات ولا مؤسسات الإغاثة ولا المنظمات.

بهذه الهدنة يلتقط الأطفال أنفاسهم لمدة أربعة أيام، وتجد الثكالى والأرامل والأيتام والمشردين فرصة لمحاولة استيعاب الهول والإرهاب والإرعاب الذي عاشوه على مدى ستة أسابيع، ووقفة لذرف الدموع وربما إشعال شموع الأمل بحياة جديدة ومختلفة.

ولأن لكل شيء نهاية فإن هذه الحرب الهمجية لا بد من أن تنتهي يوماً ليجلس كل طرف من الأطراف المشاركة فيها بصورة مباشرة وتلك التي شاركت فيها بصورة غير مباشرة، وأولئك الذين كانوا يتفرجون على الإبادة انتظاراً لجني ثمارها والتكسب من نتائجها.

سيجلس كل طرف يعد الربح والخسارة من هذه الجريمة المروعة، ولكن لنفترض قراءة موقتة للحسابات بدرجة توقيت الهدنة الموقتة نفسها، أي أن هذه القراءات أدناه إنما هي محاولة لفهم المشهد حتى اليوم، آخذين في الاعتبار أن التطورات قد تقلب المشهد رأساً على عقب في أية لحظة، فتتلخبط الحسابات وتنقلب المعادلات فكل شيء في منطقتنا وارد وممكن وعلينا أن نتوقع غير المتوقع.

إسرائيل

هزيمة معنوية وعسكرية ومالية، وفشل في تحقيق أهداف ترتبك في كل مؤتمر صحافي يعقده رئيس وزرائها نتنياهو  وحكومة حربه، فلا هو قضى على “حماس” حتى الآن، ولا هو أطلق سراح الرهائن وخسر شعبياً وتشوهت صورة حكومته ودولته، أو قل ظهرت صورتها على حقيقتها أمام المجتمع الدولي وبالذات الغربي منه، الذي صد عن المؤازرة العمياء لإسرائيل مثلما في السابق، بل تعالت أصوات في أميركا نفسها تنتقد السياسات الإسرائيلية وتنتقد التأييد الأعمى لحكومة الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل.

والأهم في تغيرات المشهد ضد إسرائيل هو علو الصوت اليهودي المناهض للصهيونية والذي ينأى بنفسه عنها وعن جرائمها العنصرية باسمهم، وباختصار فإن إسرائيل بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لن تعود كما كانت قبله.

“حماس”

تعتبر هزيمة إسرائيل نصراً لها، وهو شعور مشروع لكن هذا النصر بالنتيجة لم يتحقق إلا على أشلاء أكثر من 15 ألف ضحية حتى الآن، معظمهم من الأطفال والنساء وأكثر من ضعفهم من الجرحى ومليون ونصف مشرد ودمار مرعب لأكثر من 60 ألف مبنى بقطاع غزة عموماً.

 

ومن غير المنطقي ولا الإنساني أن يتلذذ فريق “حماس ” بحلاوة هذا النصر بعد هذه المذبحة والمآسي وهذا الدمار الهائل، بل إن العالم الذي انتفض مع غزة انتفض من أجل الضحايا الأبرياء ومناهضة للإبادة الوحشية التي لا يمكن لأي إنسان صادق المشاعر أن يبحث في ثناياها عن الانتصار، وأية محاولة للتعبير عن انتصار “حماس” سيترجمه العالم كلامبالاة لدماء الأبرياء والضحايا من الأطفال والنساء والمدنيين والمشردين، وسيذكرنا بانتصار حسن نصرالله وحزبه الذي اعتبر بقاءه وبقاء تنظيمه عام 2006 نصراً على رغم “خراب البصرة”، يوم قتل في لبنان آلاف الضحايا ومئات الآلاف من المشردين وتدمرت بناه التحتية وانحدرت أوضاعه منذ تلك الحرب العدوانية إلى يومنا هذا، وهي الحرب التي ندم “حزب الله” على إشعالها باختطاف جنديين إسرائيليين، وعلى فريق “حماس” أن يستثمر هزيمة إسرائيل لا أن يحتفل بها متناسياً مآسي الحرب على الشعب الفلسطيني.

المحور العربي

منذ اليوم الأول لانطلاق الحرب والمحور العربي يحاول بكل الطرق الممكنة وقفها، فقد سيرت الكويت أول جسر إغاثي جوي لم يتوقف، وعززت مناصرتها في جميع المحافل للشعب الفلسطيني وحقوقه المسلوبة، وقامت دول المحور من دون استثناء بحملات جمع التبرعات لمنكوبي غزة.

عقدت السعودية مؤتمراً للعرب وآخر للدول الإسلامية وسيرت الوفود تجوب عواصم العالم، ونشطت الدبلوماسية الإماراتية بالأمم المتحدة بحكم عضويتها الدورية بمجلس الأمن، ونجحت سفيرتها النحلة لانا نسيبه التي تنحدر من بيت نسيبه المقدسي الفلسطيني العريق، واستصدرت قراراً بوقف إطلاق النار.

كما جهدت الدبلوماسية القطرية -المصرية المشتركة ليلاً ونهاراً للوصول إلى الهدنة الموقتة التي يمكن أن تساعد أهل غزة في التقاط أنفاسهم، ولعبت قطر دور الوسيط الخلاق الذي يهدف بجهوده الدبلوماسية إلى وقف الحرب.

وكانت مصر المنفذ الوحيد للمزدوجين والجرحى والمنكوبين، ومن خلالها أغاثت الإمارات العربية المتحدة 1000 طفل جريح أو مريض بعائلاتهم، وشيد الأردن مستشفى ميدانياً داخل غزة وأوصل المساعدات جواً بالتنسيق مع إسرائيل.

كان المحور العربي ولا يزال محل انتقاد على رغم أنه المحور المنخرط مباشرة في المأساة، ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم، فمطلوب من المحور العربي الاستعداد والتحضير والتصعيد في حال عودة التصعيد الإسرائيلي المتوقع، وقد انصب نقد المحور العربي لأنه لم يشترك عسكرياً بالدفاع عن أهل غزة، وكان هذا بالطبع ضرباً من المزايدة التي لم يفعلها المحور الإيراني.

المحور الإيراني

خطابات نصرالله وقوله بأنه منخرط بالقتال للتخفيف عن غزة تكذبه الأرقام، فما يجري في جنوب لبنان هو “مناوشات منضبطة”، ولم تندلع الجبهة السورية على رغم استمرار الغارات الإسرائيلية على سوريا وقواعد “الحرس الثوري” و”حزب الله” فيها.

جعجع ولائيو العراق بأنهم يريدون العبور إلى فلسطين من طريق الأردن، وهم موجودون في سوريا على بعد أمتار قليلة من الجولان، وأرسل الحوثيون مسيرات لم تتجاوز البحر الأحمر، واختطفوا سفينة تجارية بملاحين أجانب ليس بينهم إسرائيليون ولا حتى غربيون، وألقى عبدالملك الحوثي خطاباً أقرب إلى الهذيان يدعو فيه إلى الزحف براً، أي عبر الأراضي السعودية الممتدة لأكثر من 2000 كيلومتر ليمر فقط مروراً نحو فلسطين، على رغم أن القواعد الإسرائيلية في إثيوبيا بمتناول صواريخه التي وصلت إلى الرياض ومكة المكرمة، وهي أبعد منها بكثير.

وقد ذكرتني حجة الولائيين العراقيين وخطاب الحوثي بالمرور فقط بقصة القط واللحمة: “يا ناس، أزيحوا لحمتكم من طريقي فأنا أريد المرور فقط”، وقد يقول قائل إن في ذلك ظلماً للمحور الإيراني، لكن لا يزال في الوقت متسع، فـ “فيلق القدس” أنشئ لتحرير القدس والحرب لم تنته بعد، و”حزب الله” تصل صواريخه إلى ما وراء حيفا، فماذا ينتظرون؟

المحور العار والشنار الغربي

لعل أكبر الخاسرين أخلاقياً وقيمياً هي المؤسسات الغربية، ولا أقول الغرب والقيم الغربية، لأن في الغرب اليوم فجوة كبيرة بين المؤسسات وبين الرأي العام حيال ما يجري في غزة، فقد سقطت المؤسسات الغربية في الامتحان وظهر بائناً للعيان مدى تغلغل التأثير الصهيوني عليها، ولعل ما جرى في وزارة الخارجية الأميركية وحدها من استقالات وتمرد على سياسة الانحياز الأعمى لجرائم إسرائيل خير دليل على وضوح هذه الفجوة.

لم تضع حرب غزة أوزارها بعد لكن بعيداً من التمنيات والعنتريات فإن الخاسر الأكبر في هذه الحرب هو الطفل والإنسان المدني الغزاوي الذي لم يكن له ذنب في كل ما جرى من عمليات أو جرائم إبادة وعدوان، ولا أحد يستطيع أن يتنطع بأن الطفل الغزاوي قد انتصر، فهو يعيش اليوم نكبة جديدة حيث يقيم في العراء والخيم بلا ماء ولا وقود ولا كهرباء مع حلول الشتاء، وعلى المحور العربي والمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية تكثيف الجهود الإنسانية لتخفيف معاناة هذا الإنسان المنكوب.